أطروحة كتاب صحيح البخاري نهاية أسطورة
وأسسه في نقد صحيح البخاري.
Thesis of the book Sahih Al-Bukhari the end of a legend
It was founded in the criticism of Sahih Al-Bukhari.
بقلم د. الحسين بودميع
أولا: عرض أطروحة الكتاب.
كتاب (صحيح البخاري: نهاية أسطورة): هو كتاب يرمي إلى التشكيك في صحيح البخاري، وإسقاط الثقة به، والطعن -عبره- في جملة الحديث النبوي وعلومه؛ وبواعث جمعه وإصداره كما يعلنها جامعه ثلاثة:
1- نقد "التراث الديني" وفق تعبيره لتمييز صالحه من زائفه:
وفي هذا الباعث يقول الكاتب: «إن بحثنا في شخصية البخاري الموروثة والكتاب المنسوب إليه، لمن باب اهتمامنا بنقد الموروث الديني، الذي ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من غير مشورة منا([1])، نحاول جهدنا أن نتعرف عليه، لنقف على شذراته اللماعة الصالحة لعصرنا ومصرنا للانتفاع بها، وتمييز غثه من سمينه، ومعقولاته من خرافاته، وحقائقه من أساطيره»([2]).
2- الانتصار للقرآن ضد المرويات الحديثية
يقول الكاتب في هذا السبب: «كانت جولتنا في الأساطير المؤسسة للبخاري ولصحيح البخاري، كجزء لا يتجزأ من [العمل على إسقاط]([3]) تقديس التراث الديني، التي بدأت (كذا) مع تدوين الحديث، وتأسيس ما يسمى بعلم الحديث، لصناعة كتب ومؤلفات اتجهت منذ البداية لإلغاء القرآن، من الساحة الدينية، وفعلا هذا ما كان، فقد تم هجر كتاب الله لصالح كتب المرويات الحديثية، فأصبح لدينا إسلام تاريخي بدل إسلام الوحي»([4]).
3- ما في أحاديث البخاري في زعم الكاتب من الإساءة لله وللقرآن وللنبي ع وللعقل البشري
ولإظهار هذا الدافع يقول جامع الكتاب: «من يتصفح هذا الكتاب [يعني صحيح البخاري] سيقف على إساءات كبيرة في حق الله، وفي حق نبيه، وفي حق كتاب الله، وفي حق أمهات المؤمنين، وفي حق الإنسانية جمعاء، وإهانة العقل البشري بشكل لا يمكن وصفه، هذا ما جعلنا نقف وقفة متأنية مع هذا الكتاب لإسقاط أسطورته، التي عششت على مدى اثني عشر قرنا، وأسست عليها أوهام وخرافات وأساطير، سميت بعد ذلك دينا...؛ لذلك بعد أن وقفنا على الأسطورة برمتها ومضامينها، وجب أن نسقط الأسطورة وننسفها»([5]).
ولتسويق الكتاب لدى القراء قدم له الناشر –وهو مدير دار الوطن التي صدر عنها الكتاب أولا (عبد النبي الشراط)([6])- بمقدمة تمجيدية؛ تحدث فيها عن عقلانية الكاتب وإبداعية الكتاب، وتوسل إلى غرضه بتضمين تقديمه مفردات الإطراء التالية:
أ- وصف الكتاب بأنه (كتاب العقل)؛ المعتمد في بناء أطروحته على "سلاح العلم" و"الحجة الدامغة" و"البراهين المنطقية القوية" و"الأدلة والوثائق التي لا تقبل الشك"؛ حين قال: «لعل الكثير من المهتمين والمتتبعين لإصدارات دار الوطن...، يترقبون منها إبداعا فكريا جديدا –كما عودتهم دائما- يسلط أنوار الحق على ظلمات الباطل...، بأقلام جريئة...، بسلاح العلم، بالحجة الدامغة والبراهين المنطقية القوية المستمدة من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه...، تقدم دار الوطن لقرائها الكرام صرخة حق من جبال الأطلس الكبير، تعبر عن موقف جيل جديد من المفكرين والباحثين الذين عقدوا العزم على نصرة دين الإسلام...، وتبرئة الرسول المصطفى ع من كذب الأفاكين وخفافيش فقه الظلام، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه؛ ليشتروا بآيات الله ثمنا قليلا؛ إنه المؤلف الجديد كتاب العقل: (صحيح البخاري نهاية الأسطورة)...، الذي يقدم فيه المؤلف الأدلة والوثائق التي لا تقبل الشك على أن محمد بن إسماعيل البخاري لا علاقة له بجل إن لم نقل بكل ما نسب له فيما يسمى صحيح البخاري»([7]).
ب- وصف الكاتب بالصبر على البحث وبذل سنوات من الجهد المضني في البحث والتنقيب؛ إذ يقول: «وإذا كان الباحث لم يأت بشيء من عنده، فإنه بذل جهدا مضنيا في البحث والتنقيب الذي أخذ منه سنوات من الوقت»([8]).
جـ- الحديث عن الغنى في مصادر البحث، وعرض معلومات غير مسبوقة؛ إذ ذكر أن الكاتب «استطاع أن يجمع ما توصل إليه من مصادر أهل السلف ما لم يسبقه إليه أحد؛ فخرج بهذا الكتاب الجامع»([9]).
والكتاب مؤلف من مقدمة وخمسة فصول:
ـ فالفصل الأول مهد به للطعن في حجية السنة بالكلام عن تدوين الحديث وتأخره.
ـ وتعرض في الفصل الثاني: لعلم الحديث وقصد فيه إلى سلب صفة "العلمية" عنه.
ـ وتناول في الفصل الثالث: سيرة الإمام البخاري، محاولا الطعن في شخصه، وهدم الثقة بحفظه وصدقه.
ـ وتكلم في الفصل الرابع عن منزلة أحاديث صحيح البخاري، ونفي الإجماع عن صحتها، محاولا إثبات مخالفة بعضها لمقتضى العقل وقطعيات القرآن.
ـ أما الفصل الخامس فقد تحدث فيه عن نسبة الجامع الصحيح للإمام البخاري، وحاول التشكيك في هذه النسبة من خلال الحديث عن غياب النسخ الخطية الأصلية لصحيح البخاري، وإبراز ما بين رواياته من الاختلاف.
وانتهى في خاتمة البحث إلى هذه النتيجة: «إن صحيح البخاري كتاب مجهول المؤلف، لا أصول له، ولا حقيقة لوجوده، فهو كتاب لقيط؛ جمع بين طياته أهواء أناس وضعوا فيه ما أرادوا ليبرروا أفعالهم، ويؤسسوا عليها كهنوتهم»([10])، وكان قد لخص هذه النتيجة في مقدمة الكتاب فقال: «ونخلص في النهاية إلى أن هذا الكتاب بشكله الحالي مؤلفه مجهول، ولا تربطه أي علاقة بالشيخ البخاري»([11]).
ثانيا: أسس الكاتب في هدم الثقة بالبخاري وجامعه الصحيح
توسل الكاتب إلى بناء أطروحته بوسائل تتصل بالطعن في منهج نقل السنة وفي علم الحديث، والطعن في شخص الإمام البخاري، والتشكيك في نسبة الجامع الصحيح إليه، وهي أربع وسائل:
الوسيلة الأولى: الطعن في "علمية" علم الحديث، وسلامة منهج النقدي الحديثي.
بدأ هذه النقطة بالكلام عن تدوين الحديث الذي وصفه بـ "آفة التدوين"، وكرر فيه ذات الشبهة القديمة التي أثارها الجهمية قديما والمستشرقون حديثا حول تأخر تدوين السنة إلى ما بعد عصر التابعين، وأنها ظلت تنقل بالرواية الشفهية قرابة مائة سنة؛ مما يثير الشك في دقة نقلها؛ فقال: «حكى العديد من رواة الحديث أنفسهم منع رسول الله [ع] صحابته الكرام من تدوين كلامه، ونحن بعجالة سنورد بعض الأحاديث التي يعتبرها المحدثون صحيحة والتي تمنع كتابة الأحاديث، كما سنورد بعض الآثار عن صحابته الكرام والخلفاء الراشدين من بعده تبرز كيف حافظوا على طاعة أمره ع في منع كتابة الحديث»([12]).
فأورد بعض الأحاديث والآثار المعروفة في الباب، وحيث إنها معارَضة بأحاديث أخرى تأذن في كتابة الحديث، فقد حاول التخلص من أحاديث الإذن في الكتابة باتباع المسالك التالية:
1- ادعاء أن أحاديث المنع تفيد القطع:
حيث قال بعد إيراد طائفة منها: «هذا غيض من فيض الأحاديث والآثار التي تدل دلالة قطعية على منع الرسول [ع] لأصحابه من تدوين كلامه»([13]).
2- ادعاء أن أحاديث الإذن موضوعة مختلقة؛ وفي تقرير ذلك يقول: «وكعادة كل روايات تاريخية خاضعة لأهواء البشر ومصالحهم وأهدافهم الشخصية تم إيجاد وصنع أحاديث أخرى تأذن بتدوين كلام الرسول [ع]»([14]).
3- ترجيح أحاديث المنع؛ لأنها أقوى؛ فبعد الإشارة إلى بعض أحاديث الإذن قال: «غير أن أحاديث منع التدوين والكتابة تبقى هي الأقوى والأكثر حضورا»([15]).
4- محاولة التوفيق بين أحاديث الإذن وأحاديث المنع؛ بأن «المنع ينصب بالأساس على تدوين كلام الرسول [ع] على أساس أنه دين؛ إذ لا وحي إلا القرآن...، بالإضافة إلى أن بيان الرسول [ع] الذي ألقاه بخصوص فتح مكة هو بيان سياسي لقائد دولة، وليس لرسول؛ فلا وجود للرسالة في خطبته إلا من حيث البيان»([16]).
ومن أجل الطعن في منهج المحدثين في النقل ونزع صفة "العلمية" عن علم الحديث قال: «لا يمكننا بأي حال من الأحوال اعتبار خرافة الحديث "علما"؛ لأنها لا تملك من [خصائص]([17]) العلم شيئا»([18]).
ومن مستنداته في نفي صفة العلمية عن علم الحديث:
1- أن «منهجه منهج أهواء، وأسلوبه انتقائي مزاجي يخضع لأقوال الرجال»([19]).
2- الطعن في خصيصة الإسناد نقلا عن الكاتب المصري عماد الدين حسن بأن: «ظاهرة تناقل الأقوال بين مسلسل من الأفراد بينهم عقود من الزمن تمتد في المسلسل الواحد (سند الحديث) إلى تسع أجيال في غالب الروايات ليس إلا خرافة وأكذوبة، لأن علم النفس وعلم الاجتماع الحديثين أثبتا أن هذه الظاهرة ليست من طبيعة البشر ولا يمكن حدوثها أبدا...؛ يكفيك فقط أن تهمس في أذن تلميذ في بداية الفصل بجملة طويلة، وتطلب منه أن يهمس بها في أذن جاره، وتنظر كيف تتغير الألفاظ والمحتوى حينما تصل الجملة للتلميذ الأخير في الفصل...، فإذا كان الأمر مستحيلا في نفس الفصل تحت سقف واحد وفي بيئة وزمن واحد؛ فمن الخرافة تصديق أن فلان (كذا) روى عن فلان، وقال: إن فلان (كذا) قال له عن فلان وووووووووو إلي نسبة القول للنبي [ع] عبر عدد من القرون»([20]).
3- أن علم الجرح والتعديل لا يوثق به لأنه يخضع للأمزجة، وهو متأثر بعادة العرب في المدح والذم؛ حيث نقل عن الكاتب السابق قوله: «الجرح والتعديل للرواة أصلا كان من خصائص العرب الذميمة في التهويل في مدح من يحبونه وذم من يختلفون معه، مما يجعل الأمر مستحيلا أن يكون الجرح والتعديل يعكس حقيقة الرواة كما يتوهم أهل الحديث اليوم، وإنما يعكس فقط تقلب الأهواء في مدح وذم الناس»([21]).
4- التشكيك في عدالة الصحابة؛ بالتساؤل: «هل كان الصحابة كلهم عدول (كذا)، وكلهم أتقياء، وكلهم على مرتبة واحدة من العلم، أم هم في الحقيقة أصناف وأنواع، يجب أخذ الحيطة والحذر عند الأخذ منهم وعنهم؟»([22]).
الوسيلة الثانية: الطعن في شخص الإمام البخاري.
تناول الكاتب سيرة الإمام البخاري بأسلوب يروم إلى التنقيص من قدره ومنزلته وهدم الثقة به عبر:
1- التشكيك في قوة حفظه، بتكذيب كل شهادة نقلت في ذلك، ونسبتها إلى الخرافة؛ فحسب الكاتب «مسألة حفظ البخاري خرافة كخرافات أخرى، نقلت إلينا بدون تمحيص من ناقليها، عبر كتب التراث المليئة بهذا الخبل "التاريخي"، والذي يرمي بالأساس إلى خلق شخصية أسطورية عصية على النقد أو الطعن»([23]).
2- غمزه في عقيدته بإثارة مسألة محنة البخاري مع الذهلي في مسألة اللفظ بالقرآن، وادعاء أن بعض العلماء «اتهم البخاري في عقيدته ونسب اليه قولا يفيد أن القرآن مخلوق بلفظه»([24]).
3- إيراد قول علي بن المديني في البخاري: «دعوا قوله؛ فإنه ما رأى مثل نفسه»؛ فالمتمعن في هذا القول حسب فهم الكاتب «يجده ذما صريحا للبخاري، واتهاما من شيخه بأنه كان لا يرى إلا نفسه»([25])؛ أي أنه «يتهمه بالأنانية وبالغرور»([26]).
4- ادعاء أن البخاري مجروح ومتروك الحديث؛ فقد «وصل الأمر ببعض كبار الشيوخ وأعلامهم في "علم" الحديث، إلى تجريح محمد بن إسماعيل البخاري نفسه، واعتباره مجروحا ومتروك الحديث...، واتهامه في دينه، وإلحاقه بزمرة الضالين المضلين، وأصحاب الزيغ والعقائد الفاسدة»([27]). ويقصد الكاتب ببعض كبار الشيوخ وأعلامهم محمد بن يحيى الذهلي؛ الذي أمر تلامذته من أهل خراسان بترك مجالس البخاري.
ولتعزيز فكرة اتهام البخاري استنبط الكاتب من قصة امتحان البغداديين له: «أن هؤلاء المحدثين كانوا يشكون في البخاري ويتهمونه، أي أنه ليس ثقة لديهم؛ فاختبروه»([28]).
الوسيلة الثالثة: تكذيب بعض أحاديث صحيح البخاري
المتصفح لما جمعه الكاتب في كتابه سيلحظ أن تكذيب بعض النصوص الحديثية في الجامع الصحيح للبخاري هو أبرز الأساليب التي اعتمدها لتحقيق غرضه، وهو إسقاط الثقة بكتاب البخاري، والتشكيك -من ثم- في كل كتب الحديث؛ فقد ذكر في مقدمة الكتاب أنه توجه في بداياته «إلى التنقيب في هاته الأحاديث المروية في صحيح البخاري؛ فوجدتُ أن المئات منها تحبل بكوارث خطيرة؛ فمنها ما يسيء إلى مقام الألوهية، ومنها ما يسيء إلى مقام النبوة، منها ما يسيء إلى مقام الإنسان نفسه؛ والمرأة على وجه الخصوص»([29]).
وتعجب في موطن آخر من تسليم الشيوخ بصحة أحاديث البخاري «رغم كم الأباطيل والخرافات والأساطير التي يزخر بها هذا الكتاب، حيث أصبحت صحته من الأمور المسلمة لدى الشيوخ، غير أن من يتصفح هذا الكتاب سيقف على إساءات كبيرة في حق الله، وفي حق نبيه، وفي حق كتاب الله، وفي حق أمهات المؤمنين، وفي حق الإنسانية جمعاء»([30]).
وأغلب النماذج التي أنكرها من أحاديثه ردها على أساس مخالفتها للقرآن حسب فهمه، ومن أحاديث صحيح البخاري التي رأى الكاتب أنها موضوعة:
1- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ع وَذِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ»([31])؛ فهذا الحديث في رأي الكاتب يؤكد «أن الرسول [ع] كان معدما، وأن الله لم يغنه عن الناس كما أخبره سبحانه في سورة الضحى: (ووجدك عائلا فأغنى)، ليموت وذرعه مرهونة عند يهودي بالمدينة !! لذلك سيجد المؤمن نفسه بين موقفين: إما أن يصدق كلام الله في كتابه، وبالتالي سيرفض هذه الرواية المناقضة لخبر القرآن عن إغناء الله لنبيه، أو يصدق رواية البشر في كتاب بشري اسمه صحيح البخاري، وبالتالي سيجد نفسه ملزما بتكذيب كلام الله في القرآن»([32]).
2- حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَالنَّبِيُّ ع عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ، فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ ثُمَّ أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَخَرَجَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ»([33]).
ففي هذا الحديث حسب فهم الكاتب إساءة للنبي ع، حيث أخبر فيه الراوي «أن رسولنا الكريم الطاهر، ينهض للصلاة بعد نوم عميق، ليصلي بدون وضوء، وهو الشيء الذي يعتبر محالا في حق نبينا، والمعلوم من ديننا وكما تواتر تواترا عمليا عن نبينا، أن النوم من نواقض الوضوء، سيما منه الثقيل»([34]).
وقد يورد في بعض المناسبات أحاديث مما يراه مكذوبا من صحيح مسلم، باعتباره شريكا لجامع البخاري في وصف الصحة عند عامة الناس، ومن ذلك:
3- حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ؛ فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ ع وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ»([35]).
فما جاء في الحديث حسب فهم الكاتب «اتهام صريح ولا لبس فيه لكتاب الله، ووصمه بالتحريف والنقصان، لكننا لازلنا في عصرنا هذا نجد من لا يملك الجرأة للقول بجراءة وشجاعة: إن هذا افتراء بين على أمنا عائشة، وافتراء على رسول الله [ع]، وكذب وبهتان على كتاب الله الذي تكفل الله بحفظه من كل تحريف أو زيادة أو نقصان»([36]).
4- حديث أبي موسى الأشعري قال: «إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ، فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: (لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ)» ([37]) .
فهذا كما يرى الكاتب «ادعاء صريح من الصحيحين بأن القرآن نقصت منه سورة، تعالى الله عما يصفون، وجل كتابه عما يفترون»([38]).
وسيأتي الجواب عن طعنه في الحديثين الأولين في الباب الثاني من هذه الدراسة.
أما الحديثان الأخيران ففيهما إخبار عن وقوع النسخ في القرآن الكريم، وجواز النسخ ووقوعه في الشرع حقيقة أكدها القرآن في غير موضع؛ كقوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) [البقرة: 106]، وقوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [النحل: 103]، فإنكار الحديثين وغيرهما لا يمضي إلا على طريقة من ينكر حقيقة النسخ، وإنكار النسخ تكذيب بالقرآن الذي لا يمل هذا الطاعن من ترديد أنه يعظمه ويجله.
الوسيلة الرابعة: الطعن في نسبة الجامع الصحيح للإمام البخاري.
مما اعتمده الكاتب للتشكيك في أصالة صحيح البخاري وصحة أحاديثة التشكيك في نسبته إلى مؤلفه الإمام البخاري، وقد أعلن في غير مناسبة أن هذا الغرض هو الهدف الأساس من جمع وإصدار هذا الكتاب، وقد توسل إلى هذا الغرض بوسيلتين يرى أنهما كفيلتان بنفي نسبة الجامع الصحيح إلى البخاري:
1- إثبات عدم وجود النسخ الأصلية لصحيح البخاري، ويعرف الكاتب النسخة الأصلية للكتاب بقوله: «النسخة الأصلية لكتاب ما: هي المخطوطة التي كتبها المؤلف بخط يده»([39]).
ولتقرير هذه النتيجة، وما أراد تأسيسه عليها عقد عنوانا خاصا باسم: (النسخة الأصلية لصحيح البخاري) ورفع فيه تحديا في وجه «الشيوخ المداحين [لصحيح البخاري] أن يقدموا لنا المخطوطة الأصلية التي خطها الشيخ البخاري عندما كان يؤلف كتابه الجامع الصحيح...؛ [فالبخاري] ألف كتابه تأليفا بخط يده، وأنه ترك نسخة لمن بعده عند تلميذه الفِرَبْري([40]) ونحن نسائلهم أن يدلونا على هاته المخطوطة، أين هي الآن؟ أين توجد؟ في أية مكتبة أو متحف هي راقدة أو محنطة أو مخزنة؟ لكن صدقوني... لا أحد من هؤلاء الشيوخ يعرف، لكن الحقيقة التي يريدون إخفاءها، ونحن نعمل عبر هذا الكتاب اليوم على إظهارها؛ وهي أنه لا يوجد في العالم أجمع مخطوطة واحدة بخط محمد بن إسماعيل البخاري، لصحيح البخاري»([41]).
ولإثبات هذه النتيجة نقل الباحث عرضا وصفيا «لإبراهيم اليحيى مفهرس مخطوطات في مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض، يقدم لنا من خلاله النسخ التي يسميها "أصلية" لكتاب الجامع الصحيح حيث قام بنشر هذا العرض على موقع أهل الحديث»([42]).
وهو عرض طويل لصور بعض مخطوطات الجامع الصحيح مرفوقة ببياناتها، نقله الكاتب كما هو على طوله البالغ 76 صفحة من الكتاب، ثم علق عليه بقوله: «إذن بعد تقديمنا لهذا العرض المفصل...، يتأكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن هناك تغليطا للرأي العام عندما يدعي المؤرشف أن هاته هي النسخ الأصلية لصحيح البخاري؛ لأنها كلها نسخ يبعد عن التاريخ المعروف لكتابة صحيح البخاري بمئات السنين...، وأغلبها مخطوطات مجزأة من الكتاب، وليست مخطوطات للجامع الصحيح برمته كاملة مكتملة كما تلاحظون؛ إذن لا وجود لنسخة أصلية لصحيح البخاري بخط "مؤلفه"، لا يوجد في جميع مكتبات العالم نسخة مخطوطة بخط من ألف هذا الكتاب، وهاته هي الحقيقة التي يحاول الشيوخ إخفاءها عن الناس»([43]).
وبعد صفحات أعاد القول بأن لا وجود لنسخة أصلية لصحيح البخاري، ورتب عن ذلك الحكم بأن الكتاب ليس من تأليف البخاري؛ فقال: «لا توجد في العالم أجمع نسخة لصحيح البخاري بخط الإمام البخاري أو بخط أحد تلامذته...؛ مما يجعلنا نتساءل بحرقة وبشك هو أقرب إلى اليقين: من ألف صحيح البخاري حقا؟ وهل يمكن أن ننسب كتابا لشخص ما وليس هناك أي أثر يدل على علاقته من قريب أو بعيد بهذا الكتاب؟»([44]).
2- إبراز بعض ما بين روايات صحيح البخاري من الاختلافات بالتقديم والتأخير، وبعض الزيادة والنقص؛ فقد عد الكاتب هذه الاختلافات «من الضربات القاضية الموجهة لكتاب صحيح البخاري»([45])، ونقل من مقدمة فتح الباري قولا لأبي الوليد الباجي يقرر فيه «أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشمهينى ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع أنهم انتسخوا من أصل واحد»([46]) وأسس على هذا الاختلاف الحكم بنفي نسبة كتاب الجامع الصحيح للبخاري؛ فقال: «إن اختلاف نسخ أو روايات صحيح البخاري... له دلالة قوية، على أن صحيح البخاري الذي بين أيدينا لا يمكن الجزم بنسبته للشيخ محمد بن إسماعيل البخاري، بل الاختلاف في هاته النسخ لمن الشواهد القوية التي تبرهن لنا عن براءة البخاري من هذا الكتاب»([47]).
هذا هو ملخص أطروحة الكتب وأسس نقده لصحيح البخاري، والوسائل التي توسل بها كاتبه في محاولة هدم الثقة بالإمام البخاري وبجامعه الصحيح، عرضناها مجردة عن الرد والنقض، وسيأتي نقضها واحدة واحدة في تالي المقالات بحول الله، وإني لأبرأ إلى الله من أي تأثير تحدثه قراءتها ممن يقرأها دون أن يتبعها بما يليها من الردود عليها.
[1] مثل هذا الكلام في الكتاب المنقود مما يؤشر على أن الكاتب يكتب أحيانا دون أن يفكر في معنى ما يقول؛ وإلا فماذا يعني بأن الأسلاف ورَّثونا هذا الموروث الديني - ويقصد (المرويات الحديثية) – دون مشورة منا!؟ هل أخْذُ الآباء والأسلاف المشورةَ ممن يأتي بعدهم يدخل في حيز الإمكان؟ وإذا كان هذا الكلام طعنا من الكاتب في الحديث النبوي؛ ألا ينطبق أيضا على القرآن الذي يتظاهر بتعظيمه؟ ألسنا قد ورثنا القرآن أيضا عن آبائنا وأجدادنا دون مشورة منا؟ فإذا لم يكن هذا مطعنا في القرآن الكريم، فليكن الأمر كذلك مع السنة النبوية.
[2] صحيح البخاري: نهاية أسطورة، ط. دار الوطن الرباط، الطبعة.1، (2017م)، ص: 73-74.
[3] أضفت هذه العبارة ليستقيم التعبير عما أراده الكاتب، لأن قصده - الذي قصُر تعبيره عنه - أن يبين أحد البواعث الحاملة له على تأليف الكتاب، وهو نقد تقديس التراث الديني، ومنه في زعمه (نصوص السنة النبوية).
[4] صحيح البخاري: نهاية أسطورة، ص: 115-116.
[5] نفسه، ص: 119.
[6] كاتب وصحافي مغربي، يقدم نفسه في بعض حواراته على أنه "مفكر شيعي علماني"!!
[7] صحيح البخاري نهاية أسطورة، ص: 11-12.
[8] نفسه، ص: 11.
[9] نفسه، ص: 7.
[10] نفسه، ص: 280.
[11] نفسه، ص: 9.
[12] نفسه، ص: 7.
[13] نفسه، ص: 19.
[14] نفسه.
[15] نفسه.
[16] نفسه، ص: 20.
[17] أضفت هذه الكلمة لتستقيم العبارة، ويسلم التعبير عما أراده الكاتب.
[18] صحيح البخاري: نهاية أسطورة، ص: 48.
[19] نفسه.
[20] نفسه، ص: 46.
[21] نفسه، ص: 47.
[22] نفسه، ص: 50-51.
[23] نفسه، ص: 100.
[24] نفسه، ص: 51.
[25] نفسه، ص: 89-90.
[26] هكذا فسر الكاتب العبارة في لقاء له منشور على اليوتيوب، وهذا رابطه: https://www.youtube.com/watch?v=oAjtPti4Weg
[27] صحيح البخاري: نهاية أسطورة، ص: 145.
[28] نفسه، ص: 105.
[29] نفسه، ص: 8.
[30] نفسه، ص: 119.
[31] أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب: ما قيل في درع النبي ع والقميص في الحرب، رقم (2916).
[32] صحيح البخاري: نهاية الأسطورة، ص: 149.
[33] أخرجه البخاري في كتاب الآذان، باب: إذا قام الرجل عن يسار الإمام فحوله الإمام إلى يمينه، رقم (698).
[34] صحيح البخاري: نهاية الأسطورة، ص: 155.
[35] أخرجه مسلم في كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، رقم (3582).
[36] صحيح البخاري: نهاية الأسطورة، ص: 61.
[37] أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا، رقم (2416).
[38] صحيح البخاري: نهاية الأسطورة، ص: 62.
[39] نفسه، ص: 240.
[40] (الفَِرَبْري): بكسر الفاء وفتحها، واقتصر عياض في المشارق على الكسر، وابن ماكولا في المؤتلف والمختلف على الفتح، والجمهور يحكون فيها الوجهين، وهي نسبة إلى قرية (فَرَبْر)، من قرى بخارى.
[41] صحيح البخاري: نهاية أسطورة، ص: 163-164.
[42] نفسه، ص: 164.
[43] نفسه، ص: 240.
[44] نفسه، ص: 243.
[45] نفسه، ص: 269.
[46] هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص: 11.
[47] صحيح البخاري: نهاية الأسطورة، ص: 269.
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا