نزول عيسى بن مريم آخر الزمان
في عقيدة النصارى
(The descent of Jesus at the end of time In the belief of the Christians)
بقلم: د. الحسين بودميع
نزول نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام من السماء إلى الأرض في آخر الزمان من المشتركات العقدية التي تواردت على تقريرها مصادر المسيحية مع مصادر الإسلام؛ فكما يعتقد المسلمون أن نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان علامة من علامات الساعة الكبرى، التي ستكون في تتابعها كتتابع حبات العقد إذا انفرط نظامه؛ وأن نزوله مؤذن بقرب نهاية الحياة الدنيا، وبداية الحياة الآخرة، وأن مجيئه نصر للإسلام، ورحمة لأهل الحق، وإقامة للحجة على الخلق، ويعتقدون أن نزوله حقيقة دل عليها القرآن، وتواترت بها الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك النصارى يعتقدون أن المسيح عليه السلام سينزل حتما في منتهى الأيام، ديانا «لكي يدين الأحياء والأموات»([1])، ويكافئهم على أعمالهم، وأن ذلك من العقائد المحورية لديهم، وأنه "تعليم" جوهري من تعاليمهم؛ لذا أجمعت عليه كل طوائفهم، وإن اختلفوا في بعض تفاصيله؛ جاء في كلام للقس صبري واسيلي بطرس بهذا الصدد؛ أن «المجيء الثاني للمسيح يحتل مكانة عظيمة في الكتاب المقدس، كمجيئه الأول تماما؛ فبالنسبة للعهد الجديد فقط، فإن عدد الآيات التي تتحدث عن المجيء الثاني، هي (319) آية...، وهذا يؤكد لنا أنه ليس هناك تعليم يفوق في الأهمية هذا التعليم»([2]).
وأكد الأنبا يوأنس أسقف محافظة الغربية بمصر أن «مجيء المسيح الثاني حقيقة مؤكدة؛ لا نزاع فيها ولا مجادلة، فهي إحدى حقائق المسيحية الكبرى، التي ظفرت بإجماع الطوائف والمذاهب المسيحية»([3]).
وجاء في كتاب قصة الحضارة: «ثمة عقيدة مشتركة وحَّدت الجماعات المسيحية المنتشرة في أنحاء العالم: هي أن المسيح ابن الله، وأنه سيعود لإقامة مملكته على الأرض، وأن كل مَن يؤمن به سينال النعيم المقيم في الدار الآخرة»([4]).
بل«إن الاعتقاد بعودة المسيح الثانية هو الذي أقام صرح المسيحية، وأن الأمل في الدار الآخرة هو الذي أبقى عليها»([5]).
ولمجيء المسيح عندهم سوابق تسبقه، ووقائع تقترن به، ولواحق تعقبه.
المحور الأول: سوابق المجيء الثاني للمسيح
عامة النصارى على أن وقت المجيء الثاني للمسيح في آخر الزمان، من الغيبيات التي حُجب علمها عن الناس؛ فلا أحد غير الله يعلم لمجيئه وقتا مؤقتا بمن في ذلك المسيح نفسه؛ ولكنهم يذكرون أن لمجيئه علامات تسبقه «تتلخص في حدوث كوارث عظيمة في الكون؛ في السماء..، وعلى الأرض مثل الزلازل، والبراكين، والحروب، والمجاعات، والأوبئة، والارتداد؛ سواء عن الدين أو الإيمان القويم، وبالتالي ظهور البدع والهرطقات، وظهور الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة وأضداد المسيح وعلى رأسهم ضد المسيح الأخير أو ما يسمى بالمسيح الكذاب أو الدجال، وأخيرا الكرازة([6]) بالإنجيل في الخليقة كلها، ولكل البشرية»([7])، ولعل أجمع نص لعلامات المجيء الثاني، ما جاء في جواب المسيح للتلاميذ بعد موعظة الجبل؛ وقد سألوه فيما يذكر كاتب إنجيل متى قائلين: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هَذَا؟ وَمَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟، فَأَجَابَ يَسُوعُ: انْظُرُوا لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ، فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ، وَسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا لاَ تَرْتَاعُوا. لِأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ كُلُّهَا. وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ، لِأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ..، وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ..، وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى..، وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ، وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ، وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ...، اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ»([8]).
وقال القديس بولس: «ثُمَّ نَسْأَلُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَاجْتِمَاعِنَا إِلَيْهِ، أَنْ لاَ تَتَزَعْزَعُوا...، لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا، لأَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ الاِرْتِدَادُ أَوَّلاً، وَيُسْتَعْلَنَ إِنْسَانُ الْخَطِيَّةِ، ابْنُ الْهَلاَكِ، الْمُقَاوِمُ وَالْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلَهاً أَوْ مَعْبُوداً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ اللهِ كَإِلَهٍ، مُظْهِراً نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلَهٌ»([9]).
ويمكن تفصيل سوابق "المجيء" الثاني للسيد المسيح، في تصور النصارى استنادا إلى هذين النصين وأمثالهما على النحو الآتي:
1- ظهور مسحاء كذبة، و(المسحاء): جمع مسيح، و(المسيح الكذاب): من يدعي كذبا أنه المسيح المنتظر؛ و«قد ظهر كثيرون من اليهود عبر التاريخ يدعى كل واحد منهم أنه هو المسيح المنتظر»([10]).
2- كثرة الحروب، وأخبارها؛ ويستدلون على تحقق هذه العلامة بأن الحروب قد كثرت في هذا الزمان؛ حتى «بلغ عدد الحروب التي نشبت في العالم منذ الحرب العالمية وحتى الآن [1999م] أكثر من خمسة وستين حرباً مات فيها ملايين الناس»([11]).
3- انتشار المجاعات والأوبئة والزلازل والكوارث بصفة عامة ؛ مثل الأعاصير، والفيضانات، والجفاف وغيرها؛ كما في النص الأول «وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ»([12]).
4 - حدوث علامات عظيمة غير معتادة في السماء، ووجود حيرة عظيمة والخوف من شر ما سيحدث في المستقبل؛ كما جاء في إنجيل لوقا: «وَالنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفِ وَانْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى الْمَسْكُونَةِ؛ لأَنَّ قُوَّاتِ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ»([13]).
5 - الاضطهاد الشديد للمسيحية كما يعتقدون، وانتشار الكراهية للمسيحيين واضطهادهم في أماكن كثيرة([14])؛ «وهذا ما حدث منذ بدء المسيحية وعلى مر العصور؛ فقد اضطهد اليهود المسيحية منذ الشهر الأول لحلول الروح القدس، وظل اليهود يتعقبون المسيحيين في كل أنحاء الإمبراطورية الرومانية، ثم عانت المسيحية من الاضطهاد الشديد على أيدي الأباطرة الرومان، وعلى رأسهم نيرون في القرن الأول، ودقلديانوس في القرن الرابع الميلادي، كما عانت المسيحية من الاضطهاد في فترات كثيرة من العصور الوسطى وفى العصر الحديث، وكانت أقسى هذه الاضطهادات في العصر الحديث هي التى حدثت في الدول الشيوعية التى حاولت القضاء على المسيحية واستئصالها من جذورها»([15]).
6 - الارتداد عن الدين وعبادة الشيطان، ويفسر الارتداد عندهم باتجاه «كثير من الناس إلى الإلحاد..، والمادية ومذهب المتعة، والشيوعية، و..عبادة الشيطان»([16]).
والارتداد عن الدين يتخذ صورتين: «الارتداد الأدبي والأخلاقي، والارتداد العقيدى»([17])، ويتمثل «الارتداد الأدبي والأخلاقي [في انتشار] الزنى والشذوذ الجنسي بجميع أنواعه»([18])، بينما يتجلى الارتداد العقدي في ظهور«البدع والهرطقات..، [مثل] بدعة شهود يهوه التي تنكر لاهوت المسيح وتعتبره إلهاً ثانيا بعد الله !! وتقول أنه الملاك ميخائيل !! وتنكر عقيدة الثالوث وقيامة المسيح بالجسد، ووجود الروح، وتُناقِض معظم ما تنادى به الكنيسة المسيحية بطوائفها الثلاث؛ الأرثوذكس، والكاثوليك، والبروتستانت»([19]).
7- انتشار الإنجيل في العالم كله؛ كما يقول النص السابق: «وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ»([20])، ويقول إنجيل مرقس: «يَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ»([21])، هكذا يستدلون بالنصين على انتشار الإنجيل في كل العالم قبيل نزول المسيح، وواضح أن لا دلالة فيهما على ذلك؛ فإن الكرازة (أي المناداة والتبشير) بالإنجيل لا يقتضي قبوله.
8- تجمع اليهود في فلسطين: يرتبط مجيء المسيح بالعودة اليهودية إلى أرض فلسطين عند الحرفيين من النصارى خاصة الأصوليين منهم ارتباط المشروط بشرطه؛ فمن الطوائف المسيحية الأصولية من تتمحور عقيدتها حول ما يسميه الدكتور عبد الوهاب المسيري (العقيدة الاسترجاعية)؛ وهي عقيدة دينية «تذهب إلى أنه كيما يتحقق العصر الألفي، وكيما تبدأ الألف السعيدة التي يحكم فيها المسيح (الملك الألفي)، لا بد أن يتم استرجاع اليهود إلى فلسطين، تمهيدا لمجيء المسيح ... ويرى الاسترجاعيون أن عودة اليهود إلى فلسطين هي بشرى الألف عام السعيدة، وأن الفردوس الأرضي لن يتحقق إلا بهذه العودة ... ولذا فإن كل من يقف في وجه هذه العودة، يعتبر من أعداء الإله، ويقف ضد الخلاص المسيحي»([22]).
وتستند فكرة الربط بين مجيء المسيح والعودة اليهودية إلى أرض فلسطين إلى تأويلات دينية لنصوص كتابية، منها: ما جاء في سفر الرؤيا حول خـلاص آلاف مـن
بني إسرائيل عند مجيء المسيح حسب تأويلهم: «وَرَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ طَالِعاً مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، مَعَهُ خَتْمُ اللهِ الْحَيِّ، فَنَادَى بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ الأَرْبَعَةِ الَّذِينَ أُعْطُوا أَنْ يَضُرُّوا الأَرْضَ وَالْبَحْرَ قَائِلاً: لاَ تَضُرُّوا الأَرْضَ وَلاَ الْبَحْرَ وَلاَ الأَشْجَارَ، حَتَّى نَخْتِمَ عَبِيدَ إِلَهِنَا عَلَى جِبَاهِهِمْ، وَسَمِعْتُ عَدَدَ الْمَخْتُومِينَ مِئَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفاً، مَخْتُومِينَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ»([23]).
ووجه استنباطهم الفكرة المذكورة من هذا النص أن عودة المسيح «ستكون في (أورشليم الجديدة)، وسوف تكون في زمان لليهود فيه وجود في الأرض التي سيعود إليها المسيح؛ ..فلا بد أولا من عودة اليهود .. لكي يعود المسيح»([24])، لهذا فـإن كثيرا من الكنائس البروتستانتية تعتقد «أن تجمع اليهود في فلسطين هو مجرد تمهيد لتنصيرهم قبل المجيء الثاني للمسيح»([25]).
غير أن أنصار التفسير الرمزي لنصوص الكتاب "المقدس" من أتباع الكنيسة التقليدية، لا يرون هذا الربط بين مجيء المسيح والعودة اليهودية إلى أرض فلسطين؛ لأنهم لا يرون أن المسيح سيأتي ليحكم، بل ليدين الناس؛ قال البابا شنودة: «لا يوجــد
شيء في المسيحية عن عودة اليهود إلى القدس، بل إن السيد المسيح قال: (هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا)، وقد تفرقوا في جهات العالم كلها سنة 70 م، حينما تحطمت أورشليم والهيكل بواسطة القائد الروماني (تيتوس)»([26]).
9- ظهور ضد المسيح «الذي سيسبق مجيئُه وظهورُه المجيءَ الثاني للسيد المسيح مباشرة..، وستكون نهايته بعمل المسيح مباشرة في مجيئه الثاني»([27])، وقد تقدم في مبحث المسيح الدجال في عقيدة النصارى الحديث عنه مفصلا، وأن ظهوره عندهم كما عندنا مؤذن بنزول المسيح؛ ولن يفصل بينهما عندهم إلا ثلاث سنوات ونصف.
10- معركة هرمجدون:
(هرمجدون): عبارة عبرية مؤلفة من كلمتين: (هر) أو (هار) وتعني: الجبل أو التل، و (مجدو) وهو موضع «يقع في مرج ابن عامر»([28]) بشمال فلسطين([29]) المحتلة، ويبعد «شمالا من تل أبيب مسافة 55 ميلا.. [و] 20 ميلا إلى الجنوب الشرقي من حيفا، و15 ميلا بعيدا من شاطئ البحر المتوسط»([30]).
و(الهرمجدون) يرى فيه النصارى وخاصة ذوي التوجهات الحرفية «الموضع الذي ستجري فيه المعركة الفاصلة والنهائية بين ملوك الأرض تحت قيادة الشيطان (قوى الشر) ضد القوى التابعة للإله [تحت قيادة المسيح] (قوى الخير) في نهاية التاريخ، وسيشترك فيها المسيح الدجال، حيث سيكتب النصر في النهاية لقوى الخير، وستعود الكنيسة لتحكم وتسود مع المسيح على الأرض لمدة ألف سنة»([31])، ثم أصبح (هرمجدون) اسما لهذه المعركة النهائية التي يعتقد النصارى أنها ستنشب قبيل نزول المسيح، وسينزل لحسمها لصالح (قوى الخير) بعد القضاء على قادة "معسكر الشر" وأجنادهم.
وقد اختلفت طوائف النصارى في حقيقة (نبوءة الهرمجدون) كما اختلفوا في سائر النبوءات؛ «فيفسرها البعض تفسيرًا حرفيًا: باجتماع جيوش الأمم في السهل المجاور لمجدو، الذي يعتبر ميدانًا أنموذجيًا يتسع للمناورات الحربية. بينما يرى البعض الآخر أن يوحنا [حين تحدث عن حرب مستقبلية وقال: (فَجَمَعَهُمْ إِلَى الْمَوْضِعِ الذِي يُدْعَى بِالعِبْرَانِيَّةِ هَرْمَجِدُّونَ)([32])] يصور رمزيا المعركة العالمية الأخيرة بين الشر والخير، بين جنود إبليس والرب يسوع المسيح»([33])، وأيا ما كان الأمر، فإن الاعتقاد السائد عند نصارى الغرب، وبالأخص النصارى البروتستانت، هو ما عبرت عنه الكاتبة الأمريكية الشهيرة غريس هالسل إذ قالت: «إننا نؤمن كمسيحيين أن تاريخ الإنسانية سوف ينتهي بمعركة تدعى "هرمجدون"، وأن هذه المعركة سوف تتوج بعودة المسيح، الذي سيحكم بعودته على جميع الأحياء والأموات على حد سواء»([34]).
ويستند الاعتقاد النصراني بحتمية حدوث حرب الهرمجدون في نهاية الزمان - أساسا- إلى نصوص سفر الرؤيا في العهد الجديد.
وتبدأ قصة الهرمجدون في اعتقادهم باحتلال الوحش البحري المفسد الذي يفسر عندهم بـ (ضد المسيح) أو (المسيح الدجال) لأورشليم، وجلوسه على هيكلها، وإفساده فيها وتعَظُّمه عن كل إله؛ بحيث «لاَ يُبَالِي بِآلِهَةِ آبَائِهِ وَلاَ بِشَهْوَةِ النِّسَاءِ، وَبِكُلِّ إِلَهٍ لاَ يُبَالِي؛ لأَنَّهُ يَتَعَظَّمُ عَلَى الْكُلِّ، وَيُكْرِمُ إِلَهَ الْحُصُونِ فِي مَكَانِهِ، وَإِلَهاً لَمْ تَعْرِفْهُ آبَاؤُهُ يُكْرِمُهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَبِالْحِجَارَةِ الْكَرِيمَةِ وَالنَّفَائِسِ»([35])؛ مما يثير ضده حاكم مصر(ملك الجنوب)، فيهاجمه، فيشعر حاكم سوريا (ملك الشمال) جراء ذلك بضرورة التدخل، فيهاجم من جهته أرض فلسطين: «فَفِي وَقْتِ النِّهَايَةِ يُحَارِبُهُ مَلِكُ الْجَنُوبِ، فَيَثُورُ عَلَيْهِ مَلِكُ الشِّمَالِ بِمَرْكَبَاتٍ وَفُرْسَانٍ وَسُفُنٍ كَثِيرَة»([36])، وحينها يستنجد الوحش بحـلفائه العشرة؛ ملوك الإمبراطورية الرومانية الجديدة (10دول من الاتحاد الأروبي)([37])، ويشتد القتال، فتكون له الغلبة، وعند ذلك ينزل المسيح مع جنوده (قديسيه)، فيدخلون على الخط، «وعندما يرى الوحش [الدجال] وملوكه العشرة السماء قد فتحت، وخرج منها الرب ومعه أجناده القديسون، في الحال سيعلنون الحرب عليه، ومن هنا يعلن الرب الحرب عليهم، وفي أقل من لمح البصر سيقضي الرب على الوحش، وعلى النبي الكذاب [كاهن الدجال]، ويطرحهما حيين في بحيرة النار، وبعد ذلك يقضي على كل الجيوش المجتمعة بالسيف الخارج من فمه، وهذه أول معركة سيجريها الرب، وهو خارج من السماء»([38]).
وفي هذه اللحظة من "معركة هرمحدون" يقول سفر الرؤيا: « ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِيناً وَصَادِقاً، وَبِالْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ، وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ...، وَالأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بِيضٍ، لاَبِسِينَ بَزّاً أَبْيَضَ وَنَقِيّاً، وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ...، وَرَأَيْتُ مَلاَكاً وَاحِداً وَاقِفاً فِي الشَّمْسِ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً لِجَمِيعِ الطُّيُورِ الطَّائِرَةِ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ: هَلُمَّ اجْتَمِعِي إِلَى عَشَاءِ الْإِلَهِ الْعَظِيمِ، لِكَيْ تَأْكُلِي لُحُومَ مُلُوكٍ، وَلُحُومَ قُوَّادٍ، وَلُحُومَ أَقْوِيَاءَ، وَلُحُومَ خَيْلٍ وَالْجَالِسِينَ عَلَيْهَا...، وَرَأَيْتُ الْوَحْشَ وَمُلُوكَ الأَرْضِ وَأَجْنَادَهُمْ مُجْتَمِعِينَ لِيَصْنَعُوا حَرْباً مَعَ الْجَالِسِ عَلَى الْفَرَسِ وَمَعَ جُنْدِهِ، فَقُبِضَ عَلَى الْوَحْشِ وَالنَّبِيِّ الْكَذَّابِ([39])...، وَطُرِحَ الاِثْنَانِ حَيَّيْنِ إِلَى بُحَيْرَةِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ بِالْكِبْرِيتِ، وَالْبَاقُونَ قُتِلُوا بِسَيْفِ الْجَالِسِ عَلَى الْفَرَسِ الْخَارِجِ مِنْ فَمِهِ، وَجَمِيعُ الطُّيُورِ شَبِعَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ»([40]).
المحور الثاني: وقائع "المجيء" الثاني للمسيح
بعد أن تتحقق هذه العلامات والسوابق، يكون العالم في اعتقاد النصارى قد تهيأ لاستقبال السيد المسيح في "مجيئه" الثاني، ليحكمه ألف سنة، ثم يدين الخلق، وينتهي العالم، أو ليدين الأمم مباشرة، دون حكم ألفي، على خلاف بين طوائفهم في ذلك.
فما أدلتهم في عقيدة المجيء الثاني للسيد المسيح في آخر الزمان؟ وما آراؤهم في كيفية ووقائع ومرات وأهداف مجيئه؟
أولا: أدلة مجيء المسيح
يستند النصارى في إثبات هذا المعتقد إلى نصوص كتابية تشيرإليه فيما يرون، أو تصرح به، في العهدين القديم والجديد؛ ومن ذلك:
1- ما يحكيه مَنْ كَتبَ (إنجيل مَتَّى) عن السيد المسيح مما أجاب به تلاميذه حين سألوه بعد موعظة جبل الزيتون قائلين: قل لنا: متى يكون هذا؟ و ما هي علامة مجيئك و انقضاء الدهر؟ وقد تقدم نص جوابه في أول هذا المبحث.
وهذا الجواب من النصوص التي تؤسس لعقيدة العودة الثانية للسيد المسيح في آخر الزمان لدى النصارى؛ إذ أجاب فيه من سأله عن وقت وعلامة مجيئه في آخر الدهر، ببيان بعض العلامات المتصلة بمجيئه؛ كبعض التغيرات التي تظهر على بعض الأجرام السماوية، وظهور علامته في السماء، ويفسر بعضهم ذلك بـ «ظهور مرئي للصليب في السماء»([41])، مبينا كيفية مجيئه، وأنه سيكون مفاجئا وسريعا كالبرق، ومعلَنا ظاهرا بحيث يراه كل أهل الأرض.
2- ما جاء في أعمال الرسل أن السيد المسيح لما كلم تلاميذه بعد "قيامته من الموت"، «ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالاَ: أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ»([42]).
فقول النص: "سيأتي" دليل عندهم على حتمية عودته في المستقبل، وقوله: "كما رأيتموه منطلقا" بيان لكيفية نزوله؛ وأنه سيكون ظاهرا مرئيا؛ وسيراه الناس نازلا كما رآه التلاميذ الجليليون صاعدا.
3- قول الرائي في الرؤى المنسوبة إلى يوحنا اللاهوتي:
«ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِيناً وَصَادِقاً...، وَالأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بِيض...، وَرَأَيْتُ مَلاَكاً نَازِلاً مِنَ السَّمَاءِ مَعَهُ مِفْتَاحُ الْهَاوِيَةِ، وَسِلْسِلَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى يَدِهِ، فَقَبَضَ عَلَى التِّنِّينِ، الْحَيَّةِ الْقَدِيمَةِ، الَّذِي هُوَ إِبْلِيسُ وَالشَّيْطَانُ، وَقَيَّدَهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَطَرَحَهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ، لِكَيْ لاَ يُضِلَّ الأُمَمَ فِي مَا بَعْدُ، حَتَّى تَتِمَّ الأَلْفُ السَّنَةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ لاَ بُدَّ أَنْ يُحَلَّ زَمَاناً يَسِيراً...، وَرَأَيْتُ نُفُوسَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ شَهَادَةِ يَسُوعَ وَمِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ اللهِ...، فَعَاشُوا وَمَلَكُوا مَعَ الْمَسِيحِ أَلْفَ سَنَةٍ»([43]) .
وهذا النص على شدة رمزيته يعد مرجعا أساسيا لدى النصارى في عقيدة المجيء الثاني للسيد المسيح، وبالأخص من يُدْعَون "الألفيين" منهم ممن يرون أنْ «سيملك المسيح ملكا حرفيا لمدة ألف سنة، ومعه قديسيه على العالم»([44]) بعد مجيئه الثاني؛ فهو النص الوحيد في العهد الجديد الذي ينص على الحكم الألفي للسيد المسيح مع قديسيه.
فـ (الراكب على الفرس الأبيض) في هذا الحلم عند مفسريهم هو السيد المسيح؛ قال ابن كاتب قيصر: «والرمز بالراكب إلى سيد الكل»([45]) وهو المسيح، والفرس الأبيض محمول عند الحرفيين على حقيقته، وهو عند الكنيسة التقليدية «رمزعلى العدل والخير والظفر»([46]).
ثانيا: مذاهبهم في مرات المجيء
تعد قضية المجيء الثاني للمسيح في آخر الزمان، - وإن حظيت كما أسلفت بإجماع الطوائف المسيحية من حيث وقوعها جملة – من أكثر المسائل الخلافية حدة في العقائد النصرانية؛ ومن أبرز ما اختلفوا فيه بشأنها: عدد مرات المجيء؛ هل سيأتي مرتين أو مرة واحدة؟
1- رأي أصحاب التفسير الحرفي
يمثل هذا الاتجاه بعض "الآباء" الأولين، والنصارى البروتستانت، ويرون أن تفسير نصوص الكتاب "المقدس" ينبغي أن يكون حرفيا؛ يتقيد فيه المفسر بما تدل عليه كلمات النص بوضعها اللغوي، لأن التفسير الرمزي يفتح الباب أمام كل واحد لأن يفسر النص بما يريد.
وبالنظر بهذا المنظار إلى نصوص نبوءات المجيء الثاني للمسيح، رأى أصحاب هذا الاتجاه أن للمسيح في آخر الزمان مجيئين:
المجيء الأول: ويسمى القيامة الأولى، وسيأتي فيه المسيح سرا، ويقف في الهواء لاختطاف "الأبرار" "المخلصين" من الأرض، و«سيلاقونه في السحاب، ويعودون معه إلى بيت الأب في السماء ..، وغير المخلصين ينتظرهم وقت مخيف في الدينونة على الأرض»([47]).
وهذا «الاختطاف سيكون لكل المؤمنين سواء كانوا أحياء أم راقدين ... ابتداء من هابيل إلي آخر مؤمن في العهد الجديد»([48]).
ويعبرون عن هذا الحدث بـ (اختطاف الكنيسة)، وقد تقدم الحديث عنه وعن دليله عندهم في الفصل السابق.
و«بعد اختطاف الكنيسة، وارتفاع الروح القدس، سينتشر الشر والفساد والتمرد سريعا في الأرض»([49])، وسيعقب الاختطافَ فترةٌ عسيرة من الشدائد والمحن، تمتد سبع سنين، وهي على مرحلتين متساويتين؛ يستغرق كل منهما ثلاث سنوات ونصف:
1- مرحلة يطلقون عليها (مبتدأ الأوجاع) ، وسيظهر فيها مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويضلون كثيرين، وستكون فيها حروب في كثير من الأماكن، ويبتلى فيها الناس بالمجاعات والأوبئة والزلازل([50]).
2- مرحلة تسمى (الضيقة العظيمة)، وخلالها سيظهر ضد المسيح النهائي (المسيح الدجال) الذي سيجلس على هيكل أورشليم، ويبسط انطلاقا منها حكمه على الأرض، إلى أن ينزل المسيح في المرة الثانية في أ خر "الضيقة"، فيبيده([51]).
المجيء الأخير: ويسمي (الظهور) و (الاستعلان)، و(القيامةالثانية) أو (قيامة الأشرار)؛ وفيه «سيأتي.. [المسيح] من السماء علي فرس أبيض، والقديسون السماويون الذين اختطفوا سوف يأتون معه ويشار إليهم بجنود السماء»([52])،
وسيكون مجيئه هذه المرة ظاهرا معلنا؛ وسوف «يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ»([53])، وسيكون نزوله «على جبل الزيتون بنفس الكيفية التي ارتفع بها، كما ذكر الملكان للتلاميذ»([54])؛ إذ قالا: «إِنَّ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاء»([55]).
وإذا كان الهدف من نزوله في المجيء الأول هو "اختطاف الأبرار"، فإن هدف النزول الثاني هو "دينونة الأشرار" بعد ملك ألفي يكون سابقا أو لاحقا لنزوله.
2- رأي أصحاب التفسير الرمزي:
وهم أتباع الكنيسة التقليدية المتمثلة في الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية، ممن يتبنى منهج التفسير الرمزي للكتاب "المقدس"، والتفسير الرمزي مسلك في التفسير لا يتقيد معه المفسر بالدلالات اللغوية لألفاظ النصوص، بل يحمل ألفاظه في الغالب على أنها رموز لمعان باطنية روحية، ويسمى (التفسير الروحي) و(التفسير المجازي) و(التفسير الآبائي)، وهو نظير التفسير الباطني عندنا؛ ويرى أنصاره أنه الأوفق لروح الكتاب "المقدس"، والمتفق مع مسلك "الرسل" و"الآباء" في فهم "الكتاب"([56])، والأسلم من "الضلال"؛ بينما «التفسير الحرفي للنصوص مخاطرة قد تؤدي إلى الضلال»([57])؛ وهو «ينافي روح العهدين القديم والجديد»([58]) .
والرمزيون لا يرون ما يذهب إليه الحرفيون من أن للمسيح في آخر الزمان مجيئين، وأن للأبرار قيامة، وللأشرار قيامة؛ لأن «كل ما جاء في الكتاب في هذا الشأن يدل على أنه يأتي مرة واحدة في حالة المجد، وتجتمع أمامه كل الأمم، الأحياء والأموات؛ أما المؤمنون الأحياء فيتغيرون ويصعدون مع الأموات المقامين من قبورهم لملاقاة الرب في الهواء، ثم يميز الأبرار عن الأثمة؛ ويعطى الأبرار الملكوت المعد لهم منذ تأسيس العالم، ويرسل الأشرار إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته»([59]).
ومن النصوص الكتابية المؤيدة لنظرية المجيء الواحد قول إنجيل متى: «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ، وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»([60]).
فهذا الكلام يفيد أنه يأتي مرة واحدة ليدين جميع الشعوب دفعة واحدة؛ الأبرار منهم والأشرار.
المحور الثالث: لواحق المجيء الثاني للمسيح
لواحق المجيء الثاني للمسيح هي الأحداث التي يعتقد النصارى أو بعضهم أنها ستعقب المجيء الثاني للسيد المسيح، وأبرزها بحسب ما تفيده مصادرهم:
أولا: القضاء على أعداء المسيح في معركة هرمجدون
تقدم في سوابق المجيء، أن معركة هرمجدون تنشب بين "قوى الخير" و"قوى الشر" كما يعتقد النصارى الحرفييون قبيل نزول المسيح؛ فيكون نزوله حسما للمعركة بقتله ضد المسيح (الدجال) وأعوانه وجنوده، وسحق كل من في "معسكر الشر"، بعد إلقاء الوحش والنبي الكذاب (أي الدجال وكاهنه) في "بحيرة النار المتقدة بالكبريت.
ثانيا: تقييد الشيطان
من الأحداث "الهامة" التي تنبأت أسفار النصارى بحدوثها خلال الملك الألفي للمسيح: تقييد الشيطان لمدة ألف سنة منعا له من إضلال الناس؛ حتى تتمحض "الألفية السعيدة" للخير والسلام؛ وهذا الحدث هو المشار إليه في نص رؤيا يوحنا السابق بقبض الملاك على التنين الذي هو إبليس، وتقييده ألف سنة، وطرحه في الهاوية.
غير أنهم مختلفون في طبيعة هذا التقييد وابتدائه ومدته؛ فأتباع الكنيسة التقيدية يعتقدون أن عملية (تقييد الشيطان) الواردة في النبوءة قد وقعت مند صلب المسيح فيما يرون، وهي عندهم «لا تعني إبادته، أو إلغاء عمله، إنما تعني أنه ليس في حريته الأولى ... التي كانت له قبل فداء المسيح للبشرية»([61]).
أما الحرفيون فيرون أن تقييده سيحصل خلال الملك الألفي، الذي سيكون عندهم بعد المجيء الثاني، وسيكون تقييدا حرفيا، أي حقيقيا كما أخبر به النص من غير تأويل.
ثالثا: الملك الألفي
الملك الألفي عند الحرفيين (ومنهم النصارى البروتستانت)؛ هو مملكة أرضية يقيمها المسيح بعد نزوله، أو "أتباعه" قبل نزوله، تمتد ألف سنة، وقد أوردته في لواحق النزول، لأن القائلين بلحوقه للمجيء الثاني هم الأعلى صوتا والأكثر تأثيرا في الرأي العام، حتى شاع أن عامة النصارى على رأيهم، وإلا فقد انقسم الحرفيون حيال هذا الملك الألفي؛ هل يكون قبل نزول المسيح، أو بعد نزوله؟ إلى طائفتين:
1- طائفة ما قبل الألفيين
وهم الذين يعتقدون أن المجيء الثاني للمسيح سيسبق الملك الألفي، ويرون أن المسيح إذا جاء ثانية سيبيد الأشرار أولا، ثم يقوم الأبرار من قبورهم، ليحكموا العالم معه ألف سنة انطلاقا من القدس، وتحت حكمه سيجدد اليهود عبادتهم في "أرض الميعاد" «ويعاد بناء أورشليم، وتصير عاصمة ذلك الملكوت، ويتم تعيين وزراء ورؤساء له من اليهود نسل إبراهيم الجسدي»([62])، ويقيد الشيطان تقييدا ماديا، ويسود السلام العالم.
وسيكون لملك المسيح الألفي عندهم دائرتان: «دائرة سماوية يسمونها بملكوت الأب، وتتكون من القديسين السماويين، من أزمنة العهد القديم والكنيسة، .. الذين قاموا في القيامة الأولى واختطفوا، إلى جانب شهداء الضيقة من اليهود والأمم.
ودائرة أرضية يسمونها بملكوت ابن الإنسان علي الأرض، والذي يتضمن البقية من اليهود الذين حفظوا أثناء الضيقة، وأسباط إسرائيل الذي أعيد جمعهم مع الشعوب الأممية في الأرض»([63]).
وبعد ألف سنة سيطلق الشيطان، ليضل الأمم من جديد، ويجمع (ياجوج وماجوج) للحرب ضد المسيح وقديسيه، وسينتصر فيها المسيح ومعسكره، ثم يقوم الأشرار من قبورهم للدينونة، وينتهي العالم([64]).
2- طائفة ما بعد الألفيين
وهم الذين يرون أن المجيء الثاني للمسيح سيكون بعد انتهاء فترة الملك الألفي الذي سيقيمه المسيحيون، وينتشر فيه البر في الأرض، ويُعِد العالم لاستقبال مجيء المسيح، ويكون مجيئه للحساب والدينونة([65])، وهنا يلتقي أنصار ما بعد الألف من الحرفيين مع أنصار التفسير الرمزي؛ فكلاهما يرى أن المجيء الأخير للمسيح سيكون للدينونة مباشرة؛ غير أن الفريقين مختلفان اختلافا جوهريا حول طبعية الملك الألفي ومدته وابتدائه؛ فـ (ما بعد الألفيون) يرون أن سيملك المسيحييون قبل مجيء المسيح ملكا زمنيا أرضيا، وسيستغرق ألف سنة حرفية، وأنه لم يبدأ حتى الآن.
أما أنصار التفسير الروحي فيرون أن «التفسير الصحيح والمرجح للملك الألفي، هو التفسير الرمزي الذي تتبناه الكنائس التقليدية»([66])؛ وهو أن الملك الألفي ملك روحي سماوي، وأن عدد (الألف) في قول الرائي (ويملكون معه ألف سنة) رمز لطول مدة الملك، وأن الملك المسيحي الألفي قد ابتدأ منذ صلب المسيح، كما يعتقدون، وسيمتد إلى مجيئه؛ فالملك الألفي عندهم رمز على «دخول الكنيسة في عصر جديد كني عن طول مدته بألف سنة، فيه تمتد المسيحية إلى كل العالم، وتتسلط على قلوب البشر، ويقيد إبليس فيستريح العالم من مكايده... ويحدث تقدم عظيم ومجيد في الأمور الزمنية والمدنية»([67]).
فـ «كلمة (ألف سنة) هي تعبير رمزي؛ لا تؤخذ بالمعنى الحرفي إطلاقا؛ .. فألف سنة هي فترة غير محددة»([68]).
والملك المسيحي الألفي عندهم قد ابتدأ كما أسلفت منذ صلب المسيح المزعوم، وسيمتد إلى مجيئه؛ «فنحن الآن نعيش هذه الألف سنة، وهي المعبر عنها بـ(ملكوت ابن محبته)؛ أي ملكوت المسيح الذي فيه الآن جميع القديسين يملكون مع المسيح»([69])
ويحتج أصحاب التفسير الرمزي لفهمهم لطبيعة الملك الألفي بأمور منها:
1- أن «ملكوت المسيح روحي لا جسدي، وفي الكتاب شواهد كثيرة على ذلك؛ منها قوله: (مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا العَالَم)([70])»([71]) .
2- أن ما «يتضح جليا من الإنجيل، أن ملكوت المسيح ليس جسديا ولا أرضيا، ولا زمنيا مثل ممالك الأرض، بل هو ملكوت روحي يتعلق بأحوال الإنسان الروحية»([72]).
فالسيد «المسيح قد رفض الملك الأرضي .. لقد أراد ملكا روحيا على قلوب الناس، لا سلطانا عالميا»([73]).
3- أن في الكتاب المقدس نصوصا تدل دلالة «قاطعة على ملك المسيح عند صعوده من هذه الأرض، وهو لا يزال جالسا على عرش الكون؛ فما الداعي بعد إلى أن يتخذ مُلكا؟ ... وقد رأينا أيضا أن مركز عرش المسيح هو السماء، فلا نصدق أن ينتقل مركز ملكه إلى أرضنا»([74]).
رابعا: حرب ياجوج وماجوج وهلاكهم
بعد انتهاء الملك الألفي للمسيح كما يراه ما قبل الألفيين من الحرفيين، ومُضِي ألف سنة على تقييد الشيطان وحجزه في محبسه «لاَ بُدَّ أَنْ يُحَلَّ.. مِنْ سِجْنِهِ، وَيَخْرُجُ لِيُضِلَّ الأُمَمَ الَّذِينَ فِي أَرْبَعِ زَوَايَا الأَرْضِ: جُوجَ وَمَاجُوجَ، لِيَجْمَعَهُمْ لِلْحَرْبِ، الَّذِينَ عَدَدُهُمْ مِثْلُ رَمْلِ الْبَحْرِ، فَصَعِدُوا عَلَى عَرْضِ الأَرْضِ، وَأَحَاطُوا بِمُعَسْكَرِ الْقِدِّيسِينَ وَبِالْمَدِينَةِ الْمَحْبُوبَةِ، فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنَ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُمْ، وَإِبْلِيسُ الَّذِي كَانَ يُضِلُّهُمْ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ وَالْكِبْرِيتِ، حَيْثُ الْوَحْشُ وَالنَّبِيُّ الْكَذَّابُ، وَسَيُعَذَّبُونَ نَهَاراً وَلَيْلاً إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ»([75]).
يحكي القمص تادرس يعقوب ملطي في تفسير (جوج وماجوج) أن بعض المفسرين يرى أنهم «قبائل معينة خاضعة لأحد الملوك العشرة التي تعاصر ضد المسيح .. ويرى البعض أن (جوج وماجوج) لا تعني قبائل معينة بل كل الشعوب المنحرفة التي يجتمع جنودها لمقاومة الكنيسة»([76])، ويذكر أن بعضهم يفسر الحرب في النص تفسيرا حرفيا فيراها حربا مادية بين جيش (جوج وماجوج) وجنود المسيح، بينما البعض مثل «القديس أغسطينوس يرى أن الحرب هنا حرب روحية [أي رمزية] وليست مادية؛ يستخدم ضد المسيح وأنصاره "جوج وماجوج" كل طرق القسوة والعنف والخداع والتضليل للفتك بالقديسين لكي ينحرفوا عن الإيمان»([77]).
وإذا أخذنا برأي من يرى أن كاتب سفر الرؤيا بوصفه يهوديا مشبعا بالثقافة اليهودية، قد اقتبس رؤاه من التراث الرؤيوي القديم، وبالأخص رؤى العهد القديم، أمكننا القول بأن حديثه عن ياجوج وماجوج مستنسخ بحذافيره من سفر حزقيال؛ فيجب إذن أن نفهم حديث سفر الرؤيا عن (جوج وماجوج) في ضوء نبوؤة حزقيال؛ وهو الرأي الذي يتبناه الناقد الكتابي الأمريكي جونثان كيرش؛ إذ يؤكد «أن بعضا من أكثر شخصيات سفر الرؤيا ومشاهده ألفة، يمكن ردها إلى فقرات بعينها من الكتاب المقدس العبري، كالشيطان، وجيوش جوج وماجوج الشيطانية»([78])؛ فماذا يقول حزقيال عن حرب (جوج وماجوج)؟
جاء في سفر حزقيال: «وَأَنْتَ يَا ابْنَ آدَمَ تَنَبَّأْ عَلَى جُوجٍ، وَقُلْ: هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَأنَذَا عَلَيْكَ يَا جُوجُ رَئِيسُ رُوشٍ مَاشِكَ وَتُوبَالَ، وَأَرُدُّكَ وَأَقُودُكَ وَأُصْعِدُكَ مِنْ أَقَاصِي الشِّمَالِ وَآتِي بِكَ عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ، وَأَضْرِبُ قَوْسَكَ مِنْ يَدِكَ...، فَتَسْقُطُ عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ أَنْتَ وَكُلُّ جَيْشِكَ وَالشُّعُوبُ الَّذِينَ مَعَكَ. أَبْذُلُكَ مَأْكَلاً لِلطُّيُورِ الْكَاسِرَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ وَلِوُحُوشِ الْحَقْلِ...، وَأُرْسِلُ نَاراً عَلَى مَاجُوجَ...، وَيَخْرُجُ سُكَّانُ مُدُنِ إِسْرَائِيلَ وَيُشْعِلُونَ وَيُحْرِقُونَ السِّلاَحَ وَالْمَجَانَّ وَالأَتْرَاسَ وَالْقِسِيَّ وَالسِّهَامَ وَالْحِرَابَ وَالرِّمَاحَ، وَيُوقِدُونَ بِهَا النَّارَ سَبْعَ سِنِينَ...، وَأَنْتَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَهَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: قُلْ لِطَائِرِ كُلِّ جَنَاحٍ، وَلِكُلِّ وُحُوشِ الْبَرِّ: اجْتَمِعُوا، وَتَعَالُوا احْتَشِدُوا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، إِلَى ذَبِيحَتِي الَّتِي أَنَا ذَابِحُهَا لَكُمْ، ذَبِيحَةً عَظِيمَةً عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ، لِتَأْكُلُوا لَحْماً وَتَشْرَبُوا دَماً؛ تَأْكُلُونَ لَحْمَ الْجَبَابِرَة...، فَتَشْبَعُونَ عَلَى مَائِدَتِي مِنَ الْخَيْلِ وَالْمَرْكَبَاتِ وَالْجَبَابِرَةِ وَكُلِّ رِجَالِ الْحَرْبِ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ»([79]).
هكذا تنبأ سفر حزقيال عن حرب جوج وماجوج المستقبلية، وبالمقارنة بين نبوءته ونبوءة سفر الرؤيا نجد تشابها شبه تام في أطراف الحرب ومكانها ومصيرها، وإن كان بينهما من فرق، ففي دور الشيطان ومكانته في الحرب، وفي زمان المعركة؛ فقد ورد «ذكر جوج وماجوج في سفر الرؤيا كأمتين تضعان جيوشهما تحت إمرة الشيطان في المعركة .. لكن حين يرد ذكرهما لأول مرة على لسان النبي حزقيال في الكتاب المقدس العبري، نجد أن جوج ملك، وماجوج بلد يتولى حكمها، ولا ذكر للشيطان، والمؤكد أن حزقيال يتنبأ بنشوب معركة بين إسرائيل و(جوج أرض ماجوج)، ولكنها ليست صداما عنيفا بأسلحة تدفع بالعالم إلى نهايته، بل يدعو الرب الملك جوج لغزو أرض إسرائيل، حتى يتسنى لرب إسرائيل أن (يتعظم ويتقدس) بالمن على بني إسرائيل بنصر عظيم، وحين يتم القضاء على جيش جوج، ويتم إخلاء الجثث من ساحة المعركة يعود بنو إسرائيل من جديد (ليسكنوا في الأرض مطمئنين)»([80]). وقول الكاتب: «ولكنها ليست صداما عنيفا بأسلحة تدفع بالعالم إلى نهايته» تعريض ببعض الطوائف المسيحية الأصولية «الحرفية التي تصر على أن ترى كل التعبيرات والأحداث المجازية في العهدين القديم والجديد كنبوءات تاريخية لابد أن تتحقق بحذافيرها»([81]) في آخر الأيام، فتدعي أن نبوءة (حرب جوج وماجوج) ستتحقق بنشوب معركة نووية بين قوى الخير و قوى الشر في آخر الزمان تدفع بالعالم إلى نهايته، يمثل قوى الشر فيها الاتحاد الروسي وحلفاؤه الذين هم قوم (ماجوج)؛ لأن النبوءة تقول: (هأنذا عليك يا جوج رئيس روش ماشك)، وقد «أجمع المفسرون الذين لهم الدراية العميقة بكلمة الله على أن جوج هو الرئيس، وماجوج هي الأرض، وروش هي روسيا، وماشك هي موسكو»([82]).
ويرُدُّ الزعمَ بأن معركة جوج وماجوج ستقود إلى نهاية العالم، أن نص النبوءة يذكر أن بني إسرائيل سيعودون بعد الحرب ليسكنوا أرضهم مطمئنين؛ تقول النبوءة: «وأجعل مجدي في الأمم، وجميع الأمم يرون حكمي الذي أجريته، ويدي التي جعلتها عليهم؛ فيعلم بيت إسرائيل أني أنا الرب إلههم من ذلك اليوم فصاعدا، و تعلم الأمم أن بيت إسرائيل قد أُجلوا بإثمهم لأنهم خانوني، فحجبت وجهي عنهم و سلمتهم ليد مضايقيهم ... لذلك هكذا قال السيد الرب: الآن أرد سبي يعقوب وأرحم كل بيت إسرائيل...عند إرجاعي إياهم من الشعوب و جمعي إياهم من أراضي أعدائهم»([83]).
خامسا: الدينونة
آخر أعمال المسيح بعد نزوله في اعتقاد النصارى هو محاسبة العباد ومجازاتهم على أعمالهم؛ فالمسيح «هُوَ الْمُعَيَّنُ مِنَ اللهِ دَيَّاناً لِلأَحْياءِ وَالأَمْوَاتِ»([84])، وسوف «يَدِينُ الأَحْيَاءَ وَالأَمْوَاتَ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَمَلَكُوتِهِ»([85])، وسيتم الحساب على التفصيل الذي يحدده إنجيل متى، إذ يقول: «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ...، ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ...، ثُمَّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ...، فَيَمْضِي هَؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ، وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ»([86]).
وبعد الحساب والجزاء ينتهي العالم المنظور، ويحل محله عالم جديد تماما بسمائه وأرضته، ويحـل اللـه فـي وسـط شعـبه؛ كـما يقـرر كـاتب سفر الرؤيا مقتـبسا من موروث اليهودي: «ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ، وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا، وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً. وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلَهاً لَهُمْ»([87]).
المحور الرابع: تعليقات على عقيدة النصارى حول المجيء الثاني للمسيح
أولا: بناء على ما تقدم في المبحث الأول من هذا الفصل من ثبوت نزول المسيح آخر الزمان في ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لا يسع المسلمَ إلا أن يقر بأن ما في مصادر النصارى بخصوص نزول السيد المسيح في منتهى الأيام على وجه الجملة من بقايا الوحي المنزل على عيسى؛ فيقيننا أنه عليه السلام قد أخبر أتباعه استنادا إلى ما يأتيه من الوحي أنه سينزل من السماء في آخر الأيام، ليقيم العدل في الأرض، فحفظت الأناجيل ذلك؛ كما أوحي بذلك إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فأخبر به أمته، وهذا مما تواردت عليه الرسالتان من العقائد، وليس مما يسميه البعض مبدأ (التداخل بين الأديان) الذي يُرجع قضية المشتركات الاعتقادية دائما إلى اقتباس اللاحق من السابق، حتى يصح ادعاء محمد رشيد رضا أن عقيدة نزول عيسى انتقلت إلى المسلمين من الديانة النصرانية، في قوله: «إنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء ... وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء، وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهر الإسلام إلى الآن بثها في المسلمين»([88])؛ فإن المبدأ القائل بأن اشتراك ديانتين في عقيدة أو خبر أو تشريع دليل على اقتباس اللاحق منهما من السابق مبدأ فاسد إذا أخذ على إطلاقه؛ فإن الرسالات السماوية وإن اختلفت في التشريعات والفروع؛ فإنها متحدة في مصدرها، وفي أصولها (أي عقائدها)، وإذا كان مصدرها واحدا وهو الله تعالى، فما المانع من أن يوحي سبحانه إلى نبيين معا بأمر اعتقادي، فتحفظه عن كل منهما أمته؟ هذا ومن المفروض أن تشترك الشرائع السماوية في كل العقائد لولا ما لحق ببعضها من التبديل والتحريف، ثم إن في كلام السيد رضا من الغلط الإيحاء بأن العقائد لا تؤخذ إلا من القرآن، وليس ذلك بصحيح؛ فإن السنة إذا صحت عن رسول الله مثل القرآن في حجيتها في باب العقائد والأحكام، والتفريق بين البابين مجرد تحكم لا دليل عليه؛ على أن أحاديث نزول عيسى كما قد مر بك متواترة؛ فلا معنى لدعوى أن القول بنزول عيسى في آخر الزمان منقول عن النصارى، إلا على رأى المغرضين من المستشرقين الزاعمين أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد اقتبس عقائده ممن سبقه.
ثانيا: من مداخل نقد النص الديني: أن يتنبأ بحدوث أمر داخل أمد معين، أو في تاريخ محدد، ثم ينقضي الأمد المعين أو يمضي التاريخ المحدد دون أن يحدث ما تنبأ به، فمثل هذا يعد ثغرة في النص يوجب الشك فيه ويودي بمصداقيته؛ لأن الخبر الصادق لا يتخلف، ونبوءات الوحي حتمية الوقوع بإجماع أتباع الشرائع السماوية؛ ومن النبوءات الإنجيلية التي أثبت الواقع فشلها: ما جاء في الأناجيل من أن عودة المسيح ستحدث قبل انقضاء الجيل الذي رفع عنهم المسيح؛ ففي الأناجيل الثلاثة: متى، ومرقس، ولوقا، أن المسـيح لـما حـدث التـلاميذ عـلى جبـل الزيتـون بعـلامات
خراب الهيكل ونزوله من السماء وقيام القيامة، قال لهم: «لْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُـلُّه»([89])؛ وقد مضى جيل المخـاطبين وأجيـال بعدهم وما نـزل
المسيح، ومن المسلم أن نبوءات الوحي لا تتخلف، وقد تخلف ما تنبأت به الأناجيل هنا، وهذا بلا شك مما يقدح في مصداقية النبوءة المذكورة، ومن ثم في مصداقيه الأناجيل كلها؛ لأنا متى علمنا أن بين نصوصها ما ليس من الوحي، تطرق منا الشك إلى جميعها.
وقد حاول القس صبري واسيلي بطرس أن يدفع هذا الإشكال، فجاء بجواب متهافت بارد؛ حيث اعتبر (شجرة التين) التي ضرب بها الإنجيل المثل في هذه النبوءة، هي عودة اليهود إلى فلسطين، وقيام دولة "إسرائيل"، وأن (الجيل) المذكور في النص هو "الجيل الذي ولد ونشأ في إسرائيل منذ عام 1948 ويطلق، عليه (جيل الصابرا)".
وقد جاء ضرب المثل بشجرة التين في قول الأناجيل: «فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً، وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقَهَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ، هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى رَأَيْتُمْ هَذَا كُلَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ، اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هَذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ»([90]).
وجاء في تأويل القس واسيلي: «إننا مطالبون كمؤمنين في الأيام الأخيرة أن نتعلم المثل من شجرة التين (إسرائيل): إن غصنها كان (جافا يابسا) لمدة 1880 سنة تقريبا، من سنة 70م، لكن في عام 1948 صار غصنها رخصا (أي أخضر )، وذلك عند إعلان قيام دولة إسرائيل والاعتراف بها رسميا.
إن شجرة التين بدأت تخرج أوراقها منذ عام 1948 وهي عبارة الجيل الذي ولد ونشأ في إسرائيل منذ عام 1948 ويطلق .. عليه (جيل الصابرا) ...؛ بحسب كلام المسيح، إن الجيل الذي خرج من شجرة التين ( جيل الصابرا ) لن يمضي وينتهي "حتى يكون هذا كله" أي إتمام النبوات الخاصة بالمجيء الثاني ونهاية العالم؛ فالجيل الذي رأى شجرة التين وقد أخرجت أوراقها، هو الجيل الذي سيشاهد النهاية ويري مجيء المسيح بعينه، وهذا توافقه كل التفسيرات الأخرى لنهاية العالم»([91]).
فإذن (جيل الصابرا)، وهو الجيل الذي ولد في "إسرائيل" مند سنة 1948م - حسب القس واسيلي – هو الذي لن يمضي حتى يشاهد نزول المسيح، ولكن للأسف مضى (جيل الصابرا) ولم يأت المسيح، فانكشف تهافت القس في تأويله، وظهر أن ما تمسك به لم يغن عنه فتيلا ولا نقيرا، أضف إلى هذا أن الأناجيل استعملت للتعبير عن كون مجيء المسيح وشيكا صيغا أخرى ليس فيها ذكر للفظة (الجيل)، ولا يمكن تأويلها على هذا النحو بحال؛ منها:
قول إنجيل متى: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ»([92])
وقوله: «وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى؛ فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَان»([93]).
فقول الإنجيل في النص الأول: (إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى..)، قطعي الدلالة كما يقول الأصوليون عندنا على أن المراد بـ (الجيل) في النص السابق هو الجيل المعاصر للمتكلم.
وأنا أرى – إن جاز لمثلي أن يرى- أن التنبؤ بقرب مجيء المسيح، وتحديد ذلك بمدى زمني قصير، إضافة أقحمها كتاب الأناجيل في النص لطمأنة المسيحيين، وتسليتهم للتخفيف من المعاناة التي يقاسونها على أيدي مضطهديهم الرومانيين، ويدل على هذا بوضوح قول النص الأخير: (ومتى طردوكم في هذه المدينة، فاهربوا إلى الأخرى...)؛ حيث أتبع ذكر الطرد، وهو لون من ألوان الاضطهاد بما يسليهم ويواسيهم، وهو القدوم الوشيك للمخلص: (لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان).
ثالثا: من المعلوم لدى جمهور النصارى أن وقت مجيء المسيح غيب لا يعلمه أحد إلا الله لقول إنجيل متى: «وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ، فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ مَلاَئِكَةُ السَّمَاوَاتِ إِلاَّ أَبِي وَحْدَهُ»([94])، ولقوله: « كُونُوا... مُسْتَعِدِّينَ؛ لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ الإِنْسَانِ»([95]).
ولكن وُجِدتْ مع ذلك طوائفُ منهم تصورت أنه يمكن معرفة تاريخ مجيئه عن طريق حسابات خاصة مبنية على نصوص من الكتاب "المقدس"؛ ومن أشهر من حدد تاريخا محددا لمجيء المسيح: حركة عرفت بالميلرية (Millerism) نسبة إلى مؤسسها: (وليم ميلر)، وهو «مزارع وواعظ أمريكي .. أعلن أن المسيح سيأتي ثانيه في أيامه .. وقد درس ميلر الكتاب المقدس دراسة حرفية ... وركز على دراسة النبوءات، وفسرها حسب فهمه الخاص وبأسلوب حرفي»([96]).
وقد خرج من دراسته الخاصة للكتاب "المقدس" بـ"قانون إيماني"، يُلزَم المنتمون إلى حركته بترديده، ومن بنوده:
«- أؤمن أن يسوع سيأتي ثانية إلى هذه الأرض وأنه سيأتي على سحاب السماء.
- أؤمن أنه سيأخذ ملكوته الذي سيكون أبديا، وسيملك القديسون المملكة إلى الأبد..
- أؤمن أن الله قد كشف الزمن، [ وأن ] الزمن يمكن أن يعرفه كل الذين يرغبون أن يفهموا وأن يكونوا مستعدين لمجيئه؛ وأنا مقتنع تماما أنه سيأتي فيما بين 21 مارس 1843 و21 مارس 1844م بحسب النظام اليهودي لحساب الوقت»([97]).
وقد انتظر أتباع الحركة – ومعهم من صدقهم من غيرهم، ومن يسخر من تنبئهم من خصومهم- بفارغ الصبر حلول هذا الأجل، فلما حل الموعد ولم يتحقق مجيء المسيح «انهارت الحركة، وأعلن ميلر صراحة فشله وخيبة أمله»([98])؛ ولكن الفكرة لم تعدم من يجددها غير آبه بفشل توقع ميلر؛ فقد قامت مجموعات أخرى بتصحيح التاريخ الذي افترضه ميلر، وحددوا مواعيد جديدة لمجيء المسيح، «ولما فشلت كل توقعاتهم زعموا أن المسيح قد جاء بالفعل ولكن بشكل غير مرئي !! ومن هؤلاء مجموعة تأسست في بروكلين بنيويورك بقيادة جورج ستورس، ونشرت بعد سنة 1870م مجلة باسم (فاحص الكتاب المقدس)، عرضوا فيها أفكارهم التي تنادى بأن المسيح قد جاء خفية، بشكل غير مرئي !! ونشرت مجموعة أخرى في أوكلاند بكاليفورنيا مجلة باسم (البوق الأخير)، ونادت بأن المسيح عاد ثانية بصورة غير مرئية في سبعينات القرن التاسع عشر !! ونشرت مجموعة ثالثة بقيادة نيلسون باربور .. مجلة (بشير الصباح) في روتشيستر بنيويورك، ونادوا بأن المسيح قد عاد ثانية سنة 1874م، ولكن بصورة غير مرئية»([99]).
وقد قال بمقولة المجيء بصورة غير مرئية أيضا جماعة شهود يهوه إذ «يرون أن المجيء الثاني للسيد المسيح تم سنة 1914م، وأنه جاء بصورة غير منظورة، وتوج سنة 1918م»([100]).
رابعا: : يلاحظ أن الأناجيل تلقب السيد المسيح بلقب (ابن الإنسان)، وبالأخص في نصوص المجيء الثاني؛ فيقول إنجيل متى مثلا: «فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي»([101])، ويقول: «هَكَذَا يَكُونُ أَيْضاً مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ»([102])، وفي إنجيل مرقس: « وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِـياً فِي سَحَابٍ»([103])، ويقول لوقا: «فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّـونَ يَأْتِي ابْـنُ الإِنْسَانِ»([104])، وهكذا
في كل الأناجيل وعموم العهد الجديد، يرد بكثافة تلقيب السيد المسيح بهذا اللقب؛ حيث «ورد لقب "ابن الإنسان" في العهد الجديد حوالي 83 مرَّة، فقد ورد في الإنجيل للقديس متى 30 مرَّة، وفي الإنجيل للقديس مرقس 13 مرَّة، وفي الإنجيل للقديس لوقا 25 مرَّة، وفي الإنجيل للقديس يوحنا 12 مرَّة، ومرة واحدة فقط في سفر أعمال الرسل، ومرّتَين في سفر الرؤيا تحت عبارة "شبه ابن إنسان"»([105])، الشيء الذي يثير تساؤلا محرجا حول ما استقر في عقائد النصارى من بنوة المسيح لله، وألوهيته؛ فهل المسيح (ابن الله) أو (ابن الإنسان)؟ أم هل يمكن أن يكون هو (الله) و(ابن الله) و (ابن الإنسان) في آن واحد؟
ونظرا لخطورة ورود لقب ابن الإنسان بكثافة في الأناجيل مرادا به السيد المسيح على التخليط النصراني حول طبيعة المسيح؛ انبرى أحد كتابهم "لكشف هذه الغمة" بلا جدوى، وهو عبد المسيح بسيط الذي كرس نفسه للدفاع عن العقائد النصرانية، مهما لاحت هشاشتها، فوضع لهذا الغرض كتابا بعنوان: (لقب ابن الإنسان هل يدل علي أنَّ المسيح إنسان فقط ؟) وقال في مقدمته: «تصوَّر بعض الكُتاب من غير المسيحيِّين ونُقَّاد المسيحيَّة أنَّ هذا اللَّقَب الذي استخدمه المسيح كلقبٍ خاصٍ به يدلّ على أنَّ المسيح مُجَرَّد إنسان فقط لا أكثر ولا أقل!! وخاصَّة أنَّ هذا التعبير استُخْدِم في العهد القديم للمقارنة بين الإنسان واللَّه، ويشير إلى الإنسان، ابن آدم في ضعفه حيث يقول : «ليْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ»([106]).... «مَنْ أَنْتِ حَتَّى تَخَافِي مِنْ إِنْسَانٍ يَمُوتُ، وَمِنِ ابْنِ الإِنْسَانِ الَّذِي يُجْعَلُ كَالْعُشْبِ؟»([107])...هل يدلّ اللَّقـب على أنَّ المسيح مُجَرَّد إنسان، بشر فقط، كما يزعم ويتصوَّر هؤلاء، أم يدلّ ويُؤَكِّد على حقيقة تجسُّده ولاهوته كالإله المتجسِّد، اللَّه الظاهر في الجسد، كلمة اللَّه الذي صار جسدًا ؟!»([108]).
بعد أن أثار هذا الإشكال شرع في بيان طرق الانفصال عنه، فتتبع النصوص التي ورد فيها اللقب في العهدين القديم والجديد معقبا على كل منها ببيان المعنى المراد منه، حاملا إياها على المعاني التي يريد، بتأويل متكلف ليس فيه أدنى احترام لعقول قرائه؛ ليصل إلى هذه الخلاصة الهلامية: «والخلاصة هي أنَّ لقب ابن الإنسان استخدمه الربّ يسوع المسيح وأطلقه علي نفسه، ولم يُطلقه عليه أحد، ليُعبِّر به عن كونه الإله المتجسِّد، المسيح الآتي والمسيَّا المنتظر، ابن داود وربُّه، وابن إبراهيم، وهو الكائن الدائم الأبديّ الأزليّ، الذي لا بداية له ولا نهاية، المولود من اليهود بحسب الجسد وهو الكائن على الكلِّ، الإله القدير والمبارك إلي الأبد، إنَّه لا يُبرهن أنَّ المسيح مُجَرَّد إنسان فقط، وإنما يُبرهن لاهوته كما يُبرهن حقيقة ناسوته، تجسُّده وكونه الإله المتجسِّد الذي فيه يحلّ كلّ مِلء اللاهوت جسديًا، اللَّه بكلِّ مِلْئِه، فهو اللَّه الظاهر في الجسد»([109]).
وأنا أرى أن الذي يبدو مقبولا هو إرجاعُ كثرة ورود لقب (ابن الإنسان) في الأناجيل مرادا بها المسيح إلى أحد أمرين:
الأمر الأول: هوس كُتاب الأناجيل بإثبات انطباق نبوءات (المسيح المنتظر) في العهد القديم على السيد المسيح، لمواجهة إنكار اليهود له؛ وأبرز مثال على ذلك أنهم أثبتوا له نسبا يتصل بداود عن طريق يوسف النجار حتى ينطبق عليه لقب (ابن داود) الذي هو من ألقاب (المسيح المنتظر) في النبوءات التوراتية، مع تنافي ذلك تماما مع عقيدة ولادة المسيح من عذراء، وإن قارئ الأناجيل، خاصة إنجيل متى، سيلحظ أن من كتبه حريص على إثبات الانطباق المذكور؛ فإنه مهما وجد في العهد القديم من نبوءة حول مسيح منتظر، أو نبي مرتقب، أو مخلص آت، إلا ونسج على شاكلتها قصة من حياة (يسوع)، فيثبتها في الإنجيل ثم يقول: (كان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي، أو بفلان ...) ويلخص النبوءة من العهد القديم، حتى غدت عبارة (لكي يتم ما قيل) لازمة لفظية في إنجيل متى مثلا؛ فقد تكررت فيه 9 مرات([110])؛ وقد لقب (المسيح.
المنتظر) في العهد القديم بلقب (ابن الإنسان)؛ كما في سفر دانيال: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ، وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى، وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ [أي الله سبحانه]، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ، فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ، سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ»([111])، فلعل كتاب الأناجيل قد أكثروا من تلقبيب السيد المسيح بلقب (ابن الإنسان) حتى يصدق الناس أنه المخلص المبشر به في العهد القديم.
الأمر الثاني: إن صحت نسبة النصوص المتضمنة لهذا اللقب إلى عيسى، فوجه كثافتها: حرص عيسى على التنبيه على بشريته لما رأى بعض الناس يتجهون إلى تأليهه، وادعاء بنوته لله؛ وقد حكى القرآن من أمر المسيح بن مريم حرصه على تحذير قومه من تأليهه، وتأكيده على عبوديته لله؛ قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار)([112]).
خامسا: من التناقض المستحيل صدوره عن الوحي الإلهي، الإخبار بأن عيسى سيأتي في آخر الزمان بشخصية مغايرة لشخصيته المعروفة التي ولد بها ونشأ عليها، وبتعاليم مناقضة لتعاليم العدل والسلام التي بعث بها؛ فإذا كانت الأناجيل تقدم عيسى عليه السلام بصورة الرجل المسالم، الرؤوف الرحيم بأتباعه وأعدائه، ذي الشخصية الهادئة المتواضعة الوديعة، الذي يوصي أتباعه بمسالمة الناس، بل بملاطفة الأعداء ومباركة اللاعنين، وحب المبغضين، ومقابلـة الإساءة بالدعاء والإحسان؛ كما في إنجيل متى: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ [في التوراة]: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ، وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ»([113])؛ إذا كان هذا هو المسيح، وهذه هي تعاليمه ووصايـاه التـي جاء بها، فهل يعقل أن يأتي في آخر الزمان محاربا قاسيا يقتل ملايين من الناس، حتى يهيئ الأرض ليحيا عليها هو وأتباعه فقط حياة سعيدة هنيئة؟
إذا كان العهد الجديد بكل أسفاره وحيا من الله، فكيف يصدر عن الله نمطان من الوحي؛ أحدهما يجعل المسيح شخصا وديعا رحيما مسالما داعية للمحبة والسلام، كما في نص متى أعلاه، والثاني يجعله محاربا قاسيا سفاكا للدماء لا يعرف الرحمة؛ كما في نصوص سفر الرؤيا السابقة؟
إن من النقاد من يرجع هذا التنافر بين نصوص العهد الجديد بشأن شخصية المسيح، إلى الرؤية اليهودية لشخصية المسيح المنتظر، التي يكتب بها كاتب سفر الرؤيا، الذي أقحم في العهد الجديد مع منافاته لروحه، وهو ما يتضح في:
سادسا: يعد سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي المرجع الأساسي الذي يشكل الرؤية العقدية للنصارى حول مجيء السيد المسيح في آخر الأيام، وما يصحبه من أحداث، و(سيناريو) نهاية العالم؛ ومما يظهر أهميته في هذا الشأن، أنه «يحظى .. في أيامنا هذه بجمهور واسع من القراء في الأوساط المسيحية الأصولية»([114])، المعروفة بعنايتها بأحداث النهاية، ومركزية مجيء المسيح في آخر الزمان ضمن عقائدها، ومع المكانة التي يتبوؤها هذا السفر لدى النصارى، وخاصة الأصوليين منهم ممن يعرفون بـ (المسيحيين الصهيونيين)، فهو سفر مطعون فيه من نواحي عديدة، مما يجعل الاعتماد عليه من غير المقبول عند ذوي العقول السليمة؛ ومن المطاعن التي يمكن توجيهها لهذا السفر:
1- أنه مطعون في "قانونيته"، مشكوك في نسبته لمن نسب إليه؛ قال الناقد الأمريكي جوناثان كيرش: «إن سفر الرؤيا ينظر إليه دائما بعين الشك، باعتباره شيئا غريبا ينتمي بالصدفة وبصورة محرجة للإنجيل، حتى في أوساط المسيحيين الأتقياء (كذا) وحتى في العهود السابقة»([115])؛ فـ«ما إن نسخ سفر الرؤيا على الرق أو أوراق البردي في أواخر القرن الأول، حتى بدأت بعض السلطات الكنسية الحذرة تنظر إليه بحذر وارتياب؛ إذ هالهم ما به من مشاهد عنف دام، ... وأثارت غضبهم فكرة حكم الملك يسوع لمدة ألف سنة على مملكة أرضية، فصدمتهم باعتبارها فكرة يهودية صرفة لما ستكون عليه مملكة المسيح، كما ساءهم ما لم يرد له ذكر فيه؛ فلا تطالعنا في سفر الرؤيا مشاهد مألوفة من حياة يسوع الناصري ومماته، ولا شيء من تعاليمه الأخلاقية السامية»([116]).
«وقال يوسي بيس في الباب 25 من الكتاب 7 من تاريخه: (قال ديونيسيش: أخرج بعض القدماء كتاب المشاهدات [مشاهدات يوحنا، وهو سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي] من الكتب المقدسة، واجتهد في رده، وقال: هذا كله لا معنى له..، ونسبته إلى يوحنا الحواري غلط، ومصنِّفه ليس بحواري ولا رجل صالح ولا مسيحي، بل نسبه (سرن تهس) الملحد إلى يوحنا، لكني لا أقدر على إخراجها من الكتب المقدسة؛ لأن كثيرا من الإخوة يعظمونه)»([117])؛ وإذا كان "مصنِّفه ليس بحواري ولا رجل صالح ولا مسيحي"، ألا يكون من الوارد في تقدير المسيحيين أن يعمد هذا المصنف إلى نسج هذه الرؤى من خياله معتمدا على ثقافته الدينيه، ثم يدعي أن المسيح هو الذي ألقاها إليه؟ ما الذي سيزعه عن الكذب وهو "ليس برجل صالح"؟
هذا وقد «أقدم مارتن لوثر على حذفه من ترجمته الألمانية للكتاب المقدس، لأنه لا ذكر فيه لتعاليم المسيح أو للمسيح نفسه، وفيما بعد رفض جورج برنارد شو سفر الرؤيا باعتباره سجلا غريبا لرؤى مدمن مخدرات، واعتبر سي. حي. يونج رؤى سفر الرؤيا غير جديرة بالدرس الجاد، ... حتى علماء الدين الأتقياء (كذا) يرتابون دائما عما يمكن أن يجنيه أي باحث جاد من مطالعة نصه»([118])، وذلك ما لاحظه أيضا الباحث في الأديان أحمد شلبي إذ قال: «ما كان أجدر بالمسيحيين أن يحذفوا هذه الرؤيا من الكتاب المقدس، فهي للخرافات أقرب»([119]).
2- أن مطالع السفر سيلفيه - دون بقية كتب العهد الجديد- سفرا تسري فيه الروح الثقافية للعهد العتيق؛ مما يوحي بالخلفية اليهودية لكاتبه؛ فـ«كاتب سفر الرؤيا كان يهودي المولد والنشأة، وربما كان لاجئ حرب فر من يهوذا ... فأخذ يعبر عن شعور الازدراء والاشمئزاز تجاه غزاة أرض اليهود، ومن المؤكد أن مؤلفه كان واحدا من اليهود ممن كانوا يعتبرون يسوع الناصري المسيح الموعود الذي طال انتظاره، ومع ذلك يظل سفر الرؤيا متأصلا في التاريخ اليهودي والسياسة اليهودية واللاهوت اليهودي، حتى وصف بأنه وثيقة يهودية ذات لمسة مسيحية طفيفة ... ويوصف مؤلفه بأنه حاخام مسيحي»([120])، ومما يدل على أن كاتبه كان يستوحي أفكاره من التراث اليهودي:
أ- أن «الشخصية السماوية التي تكشف المخطط الإلهي لنهاية العالم يسمى (شبيه ابن إنسان)، و(ابن الله)، و(الروح)، و(الحمل)، وكلها مصطلحات مستعارة من التراث المسيحاني اليهودي»([121])، وهي مصطلحات كثيرة التردد في السفر، أضف إلى ذلك تأكيد السفر على فكرة الملك الألفي للمسيح، وهي كما مر «فكرة يهودية صرفة»([122])، وكذا عناية الرائي ببني قومه (بني إسرائيل) في أبرز لحظات رؤياه، حتى جعل أبواب (أورشليم السماوية) = (الجنة) اثني عشر بابا بعدد أسباط بني إسرائيل، ورأى مكتوبا على كل باب منها اسم سبط من أسباطهم؛ يقول الرائي:
«وَأَرَانِي [الروح] الْمَدِينَةَ الْعَظِيمَةَ أُورُشَلِيمَ الْمُقَدَّسَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، لَهَا مَجْدُ اللهِ، وَلَمَعَانُهَا شِبْهُ أَكْرَمِ حَجَرٍ كَحَجَرِ يَشْبٍ([123]) بَلُّورِيٍّ، وَكَانَ لَهَا سُورٌ عَظِيمٌ وَعَالٍ، وَكَانَ لَهَا اثْنَا عَشَرَ بَاباً، وَعَلَى الأَبْوَابِ اثْنَا عَشَرَ مَلاَكاً، وَأَسْمَاءٌ مَكْتُوبَةٌ هِيَ أَسْمَاءُ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ»([124]).
أ- أن مقارنة بسيطة بين سفر الرؤيا وبعض أسفار العهد العتيق، وخاصة سفر دانيال تجعلك تدرك أن فقرات منه بأكملها منقولة حرفيا أحيانا عن أسفار الكتاب العبري، وفي هذا الجدول نماذج من أوجه التشابه بين سفر الرؤيا وبعض أسفار العهد القديم:
|
في العهد القديم |
في سفر الرؤيا |
رؤية شبه ابن إنسان قادما من السماء على السحاب |
«كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه، فأعطي سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض» سفر دانيال: 7/13-14 |
«ثم نظرت وإذا سحابة بيضاء وعلى السحابة جالس شبه ابن إنسان له على رأسه إكليل من ذهب وفي يده منجل حاد» سفر الرؤيا: 14/14 |
وصف شخص تجلى للرائي على هيئة شيخ |
«كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار» سفر دانيال: 7/9 |
«وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصوف الأبيض كالثلج وعيناه كلهيب نار، ورجلاه شبه النحاس النقي» سفر الرؤيا: 1/13-15 |
الوحش الصاعد من البحر |
«وصعد من البحر أربعة حيوانات عظيمة، هذا مخالف ذاك ... بعد هذا كنت أرى في رؤى الليل وإذا بحيوان رابع هائل وقوي و شديد جدا ... وكان مخالفا لكل الحيوانات الذين قبله، وله عشرة قرون» سفر دانيال: 7/3-7 |
«ثم وقفت على رمل البحر، فرأيت وحشا طالعا من البحر له سبعة رؤوس وعشرة قرون، وعلى قرونه عشرة تيجان، وعلى رؤوسه اسم تجديف» سفر الرؤيا: 13/1 |
جوج وماجوج ومعركة النهاية |
«هكذا قال السيد الرب: هأنذا عليك يا جوج رئيس روش ماشك وتوبال، وأردك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال، وآتي بك على جبال إسرائيل، وأضرب قوسك من يدك اليسرى، وأسقط سهامك من يدك اليمنى، فتسقط على جبال إسرائيل أنت وكل جيشك والشعوب الذين معك، أَبْذُلُك مأكلا للطيور الكاسرة من كل نوع، ولوحوش الحقل، ...وأرسل نارا على ماجوج ... وأنت يا ابن آدم، فهكذا قال السيد الرب: قل لطائر كل جناح ولكل وحوش البر: اجتمعوا وتعالوا، احتشدوا من كل جهة إلى ذبيحتي التي أنا ذابحها لكم ذبيحة عظيمة على جبال إسرائيل لتأكلوا لحما وتشربوا دما، تأكلون لحم الجبابرة وتشربون دم رؤساء الأرض كباش وحملان وأعتده [صغار المعز] وثيران ... فتشبعون على مائدتي من الخيل والمركبات والجبابرة وكل رجال الحرب يقول السيد الرب». سفر حزقيال: 39/1-20 |
«لا بد أن يحل [الشيطان] ... من سجنه، ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض: جوج و ماجوج؛ ليجمعهم للحرب، الذين عددهم مثل رمل البحر، فصعدوا على عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة [القدس] فنزلت نار من عند الله من السماء و أكلتهم» سفر الرؤيا: 20/3-10 «ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض، والجالس عليه يدعى أمينا وصادقا، وبالعدل يحكم ويحارب، ... ورأيت ملاكا واحدا واقفا في الشمس فصرخ بصوت عظيم قائلا لجميع الطيور الطائرة في وسط السماء: هلم اجتمعي إلى عشاء الإله العظيم، لكي تأكلي لحوم ملوك ولحوم قواد ولحوم أقوياء ولحوم خيل والجالسين عليها، ولحوم الكل حرا وعبدا صغيرا وكبيرا ...، وجميع الطيور شبعت من لحومهم». سفر الرؤيا: 19/11-21 |
وصف المرئي في المنام |
«ومن حقويه إلى فوق كمنظر لمعان كشبه النحاس اللامع» سفر حزقيال: 8/2 |
«ورجلاه شبه النحاس النقي» سفر الرؤيا: 1/15 |
هكذا بالمقارنة نجد المطابقة الكاملة أو شبه التامة بين كثير من فقرات سفر الرؤيا ونظائرها من أسفار العهد العتيق؛ مما يدلل على الخلفية اليهودية لكاتبه، ويؤكد صواب ما قرره جوناثان كيرش من «أن بعضا من أكثر شخصيات سفر الرؤيا ومشاهده ألفة، يمكن ردها إلى فقرات بعينها من الكتاب المقدس العبري»([125]).
3- ما فيه من التناقض؛ ومن أوجه التناقض فيه: تناقضه في وصف (الرب) الذي تجلى له في الحلم، فرب كاتب السفر، وهو يسوع المسيح كما يقول، يأتيه تارة «شِبْهَ ابْنِ إِنْسَانٍ، مُتَسَرْبِلاً بِثَوْبٍ إِلَى الرِّجْلَيْنِ، وَمُتَمَنْطِقاً عِنْدَ ثَدْيَيْهِ بِمِنْطَقَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَمَّا رَأْسُهُ وَشَعْرُهُ فَأَبْيَضَانِ كَالصُّوفِ الأَبْيَضِ كَالثَّلْجِ، وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَار»([126]).
وتارة يراه «حَمَلاً قَائِماً كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ، لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ وَسَبْعُ أَعْيُن»([127]).
ويتمثل له حينا آخر محاربا قويا يمتطي صهوة فرس أبيض «وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبِ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلَّا هُوَ، وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ»([128]).
وهنا يذكر أن "له اسما مكتوبا ليس أحد يعرفه إلا هو"، ولكن سرعان ما تكشف له أن «لَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْماً مَكْتُوباً (مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ)»([129]).
4- أن قارئ السفر سيلحظ هوسا لدى كاتبه بالعدد (سبعة)، وفرطا كبير في استعماله؛ فقد ذكر مما رآه (15 معدودا) كلها يبلغ عددها سبعا؛ حيث رأى (سبعة كواكب)، و(سبعة أرواح)، و( سبعة مصابيح)، و(سبعة قرون)، و(سبعة جبال)، و(سبعة تيجان)، و(سبع أعين)، و(سبعة أبواق)، و(سبعة ملائكة)، و(سبع ضربات)، و(سبعة جامات من ذهب)، و(سبع مناير من ذهب)، و(سبع كنائس)، و(سبعة أختام)، و(سبعة رعود) ([130]).
وهذا الإفراط في استعمال عدد (سبعة) مما قد يجعل القارئ يتساءل: أليس كثيرا على المصادفة أن يكون جُل ما يراه هذا الرائي أو يسمعه في حلمه يحمل عدد سبعة، لا يزيد عليها ولا ينقص؟ لم لا يكون بعض المعدودات المذكورات أقل أو أكثر من سبعة؟ ألا يكون هذا أمارة على تأثر خاص وهوس بهذا العدد، الشيء الذي ينزه عنه منزل الوحي؟
هذه هي القيمة الثبوتية لسفر الرؤيا؛ فإن هذه الملاحظ الأربع جزء يسير مما يمكن أن يخرج به الدارس المنصف من أوجه الخلل الكثيرة التي تبرهن على بشرية السفر، وأنه من تأليف يهودي تنصر، ثم كُتب له أن يكون جزءا من الكتاب "المقدس" الذي يعتقد الملايين من النصارى أنه وحي من الله، وبنواعليه ترسانة من التصورات والعقائد الأخروية ذات التأثير الفعال والانعكاس المباشر على مواقف كثير منهم من المشروع الصهيوني، وتبنيهم له نشأة وتنفيذا ومسارا.
[1] موريس تاوضروس، "المجيء الثاني والدينونة"، ط. دار أنطوان، شبرات، (بلا تاريخ)، ص: 6.
[2] العد التنازلي .. نحو المجيء الثاني للمسيح، والاختطاف ونهاية العالم، المطبوع ضمن الموسوعة الكتابية للمجيء الثاني للمسيح، ص: 10 ، نقلا عن مهندس محمد الحسيني إسماعيل، "المؤامرة: معركة الأرمجدون .. وصراع الحضارات"، ط. مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة.1، (1424هـ/2004م)، ص: 32.
[3] الأنبا يو أنس، كتاب "السماء"، ط. مطبعة الأنبا رويس، العباسية-القاهرة، الطبعة.2، (1985م)، ص: 193.
[4] ويليام جيمس ديورَانت، "قصة الحضارة"، ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين، تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر، ط. دار الجيل، بيروت، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، (1408 هـ - 1988م): 11/290.
[5] نفسه: 11/291.
[6] ا(الكرازة): كلمة يونانية، من فعل (كيريزو) « (kerysso)؛ [أي] يعلن وينادي (جهارا) »؛ وتعني لدى النصارى: (المناداة برسالة الإنجيل في غير العالم المسيحي؛ أي التبشير بالمسيحية، وتبليغ رسالة المسيح لغير المسيحيين). عن فرلين د. فيربروج، "القاموس الموسوعي للعهد الجديد"، ترجمة وتعريب محمد حسن غنيم وآخرين، ط. مكتبة دار الكلمة، القاهرة، الطبعة.1، (2007م)د ص: 356-358، بتصرف.
[7] عبد المسيح بسيط، "المجيء الثاني ونهاية العالم"، ص: 22.
[8] إنجيل متى: 24/3-34.
[9] رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكي: 2/1-4.
[10] عبد المسيح بسيط، المرجع السابق، ص: 28.
[11] نفسه، ص: 29.
[12] إنجيل متى: 24/7.
[13] إنجيل لوقا: 21/26.
[14] أنظر: إنجيل متى: 24/9.
[15] عبد المسيح بسيط، المرجع السابق، ص: 36.
[16] نفسه.
[17] نفسه، ص: 37.
[18] نفسه.
[19] نفسه، ص: 39.
[20] إنجيل متى: 24/14.
[21] إنجيل مرقس: 13/10.
[22] عبد الوهاب المسيري، "تاريخ الفكر الصهيوني: جذوره ومساره وأزمته"، ط. دار الشروق، القاهرة، الطبعة.1، (2010م)، ص: 153.
[23] سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي: 7/2-4.
[24] عبد العزيز مصطفى كامل، "حمى سنة 2000"، ص: 143.
[25] لي أوبرين، "المنظمات اليهودية الأمريكية ونشاطاتها في دعم إسرائيل"، ترجمة جماعة من الأساتذة بإشراف ومراجعة الدكتور محمود زايد، ط. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، الطبعة.1، (1986م)، ص: 286.
[26] جريدة الأسبوع المصرية (12/8/2002)، ص: 1، عن فؤاد شعبان، "من أجل صهيون"، ص:320.
[27] عبد المسيح بسيط، المرجع السابق، ص: 42.
[28] بطرس عبد الملك وآخرون، "قاموس الكتاب المقدس"، إصدار شركة (Compubraille)، مصر بلا تاريخ، حرف (الهاء).
[29] دائرة المعارف الكتابية، حرف (الهاء).
[30] غريس هالسل، "النبوءة والسياسة"، ص: 30.
[31] عبد الوهاب المسيري، "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الموجزة": 2/251.
[32] سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي: 16/16
[33] دائرة المعارف الكتابية، حرف (الهاء)
[34] غريس هالسل، "النبوءة والسياسة"، ص: 15
[35] سفر دانيال: 11/37-38
[36] سفر دانيال: 11/40.
[37] في حواره مع الكاتبة غريس هالسل في تل مجيدو بفلسطين يشرح الكابتن الأمريكي المتقاعد (كلايد) «(الوحش) الذي ورد ذكره في سفر الرؤيا (لسان يوحنا)، فقال: إن الوحش يعني أنه سيكون هناك اتحاد قوي من عشر دول أروبية». النبوءة والسياسة، ص: 33.
[38] عادل عزمي، "ما لا بد أن يصير"، ص: 113، عن محمد عزت محمد، "نبوءات نهاية العالم عند الإنجيليين وموقف الإسلام منها"، ط. دار البصائر، القاهرة، الطبعة.1، (1430هـ/2009م)، ص: 278.
[39] يبين ابن كاتب قيصر أن (الوحش) في كلام يوحنا «أراد به الملك الدجال، وهو المرموز عليه، وإنما أطلق عليه اسم الوحش مجازا»، أما (النبي الكذاب) فهو مساعد الدجال «الذي كان يعمل الآيات أمامه؛ لتؤمن به شيعته» ، تفسير رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي، عني بمراجعته ووضع حواشيه القمص أرمانيوس البرماوي، ط. مكتبة المحبة، مصر، الطبعة.3، (1994م)، ص: 379-380.
[40] سفر الرؤيا: 19/ 11-21.
[41] ابن كاتب قيصر، "تفسير رؤيا يوحنا اللاهوتي"،ص: 382.
[42] سفر أعمال الرسل: 1/9-11.
[43] سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي: 19/11-21 و 20/1-10.
[44] طلعت فكري، "الرجاء المبارك ومستقبل العالم"، ط. دار يوسف كمال للطباعة، الإسكندرية، الطبعة.2، (2009)،ص: 111.
[45] تفسير رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي، ص: 372.
[46] نفسه.
[47] وليم مكدزنلد، "رحلة حياتك"، ط. معهد عمواس للكتاب المقدس، (2006م)، ص: 23
[48] عبد المسيح بسيط، "المجيء الثاني ونهاية العالم"، ص: 118
[49] نفسه، ص: 118.
[50] نفسه، ص: 51-53
[51] نفسه، ص: 56-62
[52] نفسه، ص: 122
[53] سفر رؤيا يوحنا: 1/7.
[54] طلعت فكري، "الرجاء المبارك ومستقبل العالم"، ص: 86.
[55] سفر أعمل الرسل: 1/11.
[56] انظر: إميل ماهر إسحاق، "الكتاب المقدس: أسلوب تفسيره السليم وفقا لفكر الآباء القويم"، ط. مطبعة الأنبا رويس، العباسية-القاهرة، الطبعة.1، (1997م)، ص: 31-96.
[57] متى المسكين، "الملك الألفي في تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية"، ط. مطبعة دير القديس أنبا مقار، القاهرة، الطبعة. 1، (1997م)، ص:2.
[58] منيس عبد النور، "مجيء المسيح ثانية"، ص: 6.
[59] نفسه، ص: 20.
[60] إنجيل متى: 25/31-32
[61] البابا شنودة الثالث، "اللاهوت المقارن"، ط. مطبعة الأنبا رويس، العباسية-القاهرة، الطبعة.2، (1992م): 1/115.
[62] منيس عبد النور، "مجيء المسيح ثانية"، ص: 15-16.
[64] انظر الأب متى المسكين، "الملك الألفي في تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية"، ص: 2- 3.
[65] انظر نفس المرجع السابق، ص: 3.
[66] متى المسكين، المرجع السابق، ص:2.
[67] منيس عبد النور، المرجع السابق، ص: 15.
[68] البابا شنودة الثالث، "اللاهوت المقارن": 1/118.
[69] متى المسكين، المرجع السابق، ص:15.
[70] إنجيل يوحنا: 18/36.
[71] منيس عبد النور، المرجع السابق، ص: 19. وانظر البابا شنودة الثالث، المرجع السابق: 1/116.
[72] منيس عبد النور، المرجع السابق، ص: 19.
[73] البابا شنودة الثالث، المرجع السابق: 1/115.
[74] منيس عبد النور، المرجع السابق، ص: 18.
[75] سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي: 20/3-10.
[76] تادرس يعقوب ملطي، "تفسير رؤيا يوحنا اللاهوتي" ، ص: 148.
[77] نفسه.
[78] تاريخ نهاية العالم: كيف غير أكثر أسفار الكتاب المقدس إثارة للجدل حضارة الغرب، ترجمة د. عبد الوهاب علوب، ط. مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة.2، (1432هـ/2011م)،ص: 42.
[79] سفر حزقيال: 39/1-20.
[80] جونثان كيرش، "تاريخ نهاية العالم: كيف غير أكثر أسفار الكتاب المقدس إثارة للجدل حضارة الغرب"، ص: 43-44.
[81] عبد الوهاب المسيري، "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية الموجزة": 2/252.
[82] عادل عزمي، "ما لا بد أن يصير"، ص: 227، عن محمد عزت محمد، "نبوءات نهاية العالم عند الإنجيليين وموقف الإسلام منها" ،ص: 285.
[83] سفر حزقيال: 39/21-28.
[84] سفر أعمال الرسل: 10/42.
[85] رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس: 4/1.
[86] إنجيل متى: 25/31-46.
[87] سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي: 20/11-15 و 21/1-3.
[88] أسئلة من تونس، فتاوى منشورة بمجلة المنار، عدد رجب، 1346هـ/ يناير، 1928م، ضمن المجلد 28، ص: 751.
[89] إنجيل متى: 24/34، و إنجيل مرقس: 13/30، و إنجيل لوقا: 21/32 .
[90] إنجيل متى: 24/32-34، و إنجيل مرقس: 13/28-30، و إنجيل لوقا: 21/29-32.
[91] القس صبري واسيلي بطرس، "العد التنازلي .. نحو المجيء الثاني للمسيح"، ص: 106، عن: عبد المسيح بسيط، "المجيء الثاني ونهاية العالم" ص: 144.
[92] إنجيل متى16/ 28.
[93] نفسه: 10/23.
[94] نفسه: 24/36.
[95] نفسه: 24/44.
[96] عبد المسيح بسيط، "المجيء الثاني ونهاية العالم" ص: 70.
[97] نفسه، ص: 70-71.
[98] نفسه، ص: 71.
[99] نفسه، ص: 71-72.
[100] البابا شنودة الثالث، "شهود يهوه وهرطقاتهم"، طبعة مارس 2006م، القاهرة (دون ذكر دار الطبع)، ص: 63.
[101] إنجيل متى: 16/27.
[102] نفسه: 24/27.
[103] إنجيل مرقس: 13/26.
[104] إنجيل لوقا: 12/40.
[105] القس عبد المسيح بسيط "لقب ابن الإنسان هل يدل علي أنَّ المسيح إنسان فقط ؟"، نسخة إلكترونية منشورة بموقع كنيسة الأنبا تكلا هيمانوت: http://st-takla.org، ص:8.
[106] سفر العدد: 23/19.
[107] سفر أشعيا: 51/12.
[108] لقب ابن الإنسان هل يدل علي أنَّ المسيح إنسان فقط ؟، ص: 8-9.
[109] نفسه، ص:33.
[110] انظر إنجيل متى: 1/22 و 2/15 و 2/23 و 4/14 و 8/17 و 12/17 و 13/35 و 21/4 و 27/35.
[111] سفر دانيال: 7/13-14.
[112] سورة المائدة: 72.
[113] إنجيل متى: 5/43-44.
[114] جوناثان كيرش، "تاريخ نهاية العالم"، ص: 16.
[115] نفسه، ص: 17
[116] جوناثان كيرش، المرجع السابق، ص: 20.
[117] رحمة الله الهندي، "إظهار الحق"، دراسة وتحقيق وتعليق: د. محمد خليل ملكاوي، ط. الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، السعودية، (1410هـ/1989م): 1/160.
[118] جوناثان كيرش، المرجع السابق، ص: 21.
[119] مقارنة الأديان، كتاب المسيحية، ط. مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة.10، (1998م). ص: 206.
[120] جوناثان كيرش، "تاريخ نهاية العالم"، ص: 20.
[121] نفسه، ص: 23.
[122] نفسه، ص: 20.
[123] (اليشب): «نوع غير نقي من السليكات ذات التبلور الكاذب، لونها في العادة أحمر أو بني أو أصفر، ويندر أن يكون أخضر، وبعض أنواع اليشب ذو خطوط جميلة مختلفة الألوان وصالح للزينة». المعجم الوسيط، مادة (يشب).
[124] سفر الرؤيا:21/10-12.
[125] تاريخ نهاية العالم: كيف غير أكثر أسفار الكتاب المقدس إثارة للجدل حضارة الغرب، ترجمة د. عبد الوهاب علوب، ط. مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة.2، (1432هـ/2011م)،ص: 42.
[126] سفر الرؤيا: 1/13-15
[127] سفر الرؤيا: 5/6
[128] سفر الرؤيا: 19/12-13
[129] سفر الرؤيا: 19/16
[130] انظر هذه المعدودات بالترتيب في: سفر الرؤيا: 1/13-15 و 5/6 و 19/12-13 و 19/16 و 1/16 و 3/1 و 4/5 و 5/6 و 17/9 و 12/3 و5/6 و8/2 و 8/2 و 15/1 و 15/7 و 1/12 و1/4 و 6/1 و: 10/3.
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا