القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المنشورات

مقدمة في دواعي التصدي لخصوم السنة من التيار التنويري المعاصر (The reasons for confronting the Sunni opponents of the contemporary enlightenment)

 

 


مقدمة في دواعي التصدي لخصوم السنة من التيار التنويري المعاصر

(The reasons for confronting the Sunni opponents of the contemporary enlightenment)

 

بقلم د. الحسين بودميع

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، عليه نتوكل وبه نستعين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين؛ سيدنا محمد وآله وصحبه، وإخوانه وحزبه.

وبعد                                           

فإن من تتبع تاريخ الأديان والمذاهب وتطورها سيلحظ أن منشأ الانحراف والخروج عن دين الله عند أهلها أحدُ أمرين:

الأول: الكذب على الله وأنبيائه وأتباعهم.    

والثاني: التكذيب بالحق الذي جاءت به الرسل.

لهذا كثر في القرآن التحذير من هذين الأمرين؛ فقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ) [العنكبوت: 68]، وقال سبحانه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) [الأنعام:21]؛ حيث أكد سبحانه أن أظلم الناس أحد صنفين:

الأول: مفتر على الله كذبا، ويدخل في هذا الصنف الوضاعون الذين يفترون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن افترى على النبي صلى الله عليه وسلم فقد افترى على الله سبحانه.

الثاني: مكذب بالحق الذي جاءت به رسل الله عليهم السلام؛ ويدخل في هذا الصنف المكذبون بصحيح السنن.

وقد كثر الكذب على الله وأنبيائه في أمة النصارى، بينما غلب في أمة اليهود صنف المكذبين بالحق، لهذا خاطب الله النصارى بمثل قوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) [النساء: 171]، وخاطب اليهود بمثل قوله: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) [البقرة: 88]، وأخبر عنهم بمثل ذلك في قوله: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) [المائدة: 70].

أما هذه الأمة فقد تنبأ النبي بأنها ستبتلى بالصنفين معا:

فأنبأ بظهور الصنف الأول وحذر منه بما في الصحيحين وغيرهما: عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ؛ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ».

وأخبر بظهور الصنف الثاني وحذر منه بما أخرجه أحمد في المسند وغيره بسند صحيح عن الْمِقْدَامِ بْنَ مَعْدِي كَرِبَ يَقُولُ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ أَشْيَاءَ، ثُمَّ قَالَ: «يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُكَذِّبَنِي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ؛ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ؛ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ».

وقد ابتليت الأمة بالصنف الأول في أولها، وكثر الصنف الثاني في آخرها:

حيث نجم الوضاعون وكثر الكذب في الحديث النبوي في الصدر الأول من تاريخ الإسلام، إذ حاول المحرفون أن يدسوا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس منه؛ تطلعا لمجد موهوم، أو سعيا لغرض مذموم، أو تبعا لهوى مشؤوم؛ فقام ذلك خطرا يهدد بالتباس كلام النبوة بكلام الناس، بما شأنه أن ينسف بنيان الدين من قواعده، لولا يقظة الأمة وجهود الأئمة في الذب عن حياض السنة؛ جهود أثمرت منهجا علميا في نقد الروايات وتمييز أصيلها عن دخيلها، هو بحق أدق وأشمل موازين نقد النصوص وبيان درجتها أصالة وثبوتا، وهو منهج النقد الحديثي، القائم على طلب الإسناد من ناقل الخبر، للنظر في أحواله اتصالا وانقطاعا، وبحث أحوال رجاله وتواريخهم وأوصافهم المتعلقة بخلة العدالة العاصمة من تبديل الخبر عمدا، وخصلة الضبط العاصمة من تبديله خطأ، بما يطمئن السامع إلى أن كل راو قد تلقى الخبر ممن فوقه، ونقله كما سمعه.

وقد أجرى النقاد قواعد هذا العلم على المرويات الحديثية؛ فبينوا صحيحها من سقيمها، وميزوا أصيلها عن دخيلها، حتى سدوا منافذ التحريف في وجه كل ذي غرض أو مرض يبغي دس الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان من أبرز طرقهم في مقاومة الوضع في الحديث النبوي:

1- تمييز السنن الثابتة وإفرادها بالتأليف، وأشهر من تجشم عبء ذلك الإمام البخاري وبعده الإمام مسلم، ثم من بعدهما من الأئمة الذين راموا إفراد الصحيح بالتصنيف، وإن لم يسلم لهم ذلك؛ كابن خزيمة وابن حبان.

وقد أبان الإمام البخاري في قصة تأليف الصحيح عن البواعث الحاملة له على إفراد الصحيح بالتأليف، وكان من أبرزها الإحساس بواجب ذب الكذب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري: «روينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس، قال: سمعت البخاري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين؟ فقال لي: أنت تذب عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح»([1]).

فربْطُ إخراج الصحيح بذب الكذب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مما يدل على أن من أغراض تمييز الصحيح عن الضعيف درء مفسدة الوضع عن الحديث النبوي.

وقد كان كتابه وكتاب مسلم -ولا يزالان- شوكة في حلق كل مغرض مشكك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأمة قد سلمت لهما، وتلقت كتابيهما بالقبول، فكان كل ما وقع فيهما من المسند صحيحا، وكل ما وقع خارجا عنهما كان محلا للاجتهاد والنظر؛ ومن تقرر ذلك عنده لزمه ألا يركن إلى حديث ليس فيهما حتى يعلم حكم رجال الحديث ونقاده فيه، أو يبحث ذلك بنفسه إن آنس من نفسه الرشد العلمي اللازم للتصحيح والتضعيف، وبذلك يتحرى الناس في قبول الأخبار ويتقون كذب الوضاعين، ويرفع عنهم الشك حول المقدار المتلقى بالقبول المخرج في الصحيحين من السنة.

2- عزل الموضوعات في مؤلفات خاصة؛ فالأئمة النقاد لم يكتفوا بإفراد الصحيح بالتأليف، بل ميزوا الموضوع كذلك بجمعه في مؤلفات خاصة به حتى يعرف ويتقى، وكان في إفراد الموضوعات بالتأليف تعريف بواضعيها أيضا؛ لأن من منهجهم أن يذكروا عقب كل حديث موضوع من تولى وزر وضعه؛ مما ساعد على فضحهم وكشف كذبهم.

3- وضع علامات يعرف بها الموضوع؛ فإلى جانب ما تقدم وضع العلماء للحديث الموضوع علامات يعرف ويتميز بها عن غيره؛ ومن ذلك:

ـ أن يعترف راويه بوضعه بعد مساءلته ومباحثته من قبل النقاد المحققين.

ـ أن يكون في سند الحديث راو كذاب، مذكور بالوضع، ولا يعرف ذلك الحديث إلا من جهته.

ـ أن تدل قرائن أحوال الراوي على أنه وضع الحديث لحاجته إليه.

ـ أن يكون حديثا عن أمر جسيم؛ تتوافر الدواعي على نقله ولا يرويه إلا واحد.

ـ أن يكون ركيك المضمون فاسد المعنى؛ أما ركة اللفظ فالمحقق أنها لا تدل على الوضع؛ لجواز أن يرويه بالمعنى من ليس بليغا؛ ومن فساد معنى الحديث:

* أن يكون الحديث سمَِجا تمجه الأذواق وتسخر منه العقول.

* أن يكون مخالفا لمقررات الشرع وقطعياته.

* أن يكون مخالفا لمقتضى العقل السليم، غير قابل للتأويل.

* أن يشتمل على مبالغة ومجازفة في الوعد والوعيد؛ بترتيب الثواب الجسيم على العمل اليسير، أو العقاب الشديد على الذنب الحقير.

هكذا شمر الأئمة عن سواعد الجد وحاربوا تيار الوضع بلا هوادة، حتى تحقق لهم النصر المبين عليه، فميزوا الدجاجلة عن الأثبات الثقات، ونزهوا الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، وحفظ الله بجهودهم السنة النبوية من الضياع والتحريف.

وكما كانت السنة النبوية قد ابتليت أول الأمر بتيار الكذابين، فقد ابتليت في هذه الآونة بتكاثر تيار المكذبين، وهم نوابت نبتت بين طوائف العلمانيين الذين أشربوا في قلوبهم كراهة الدين وحامليه، فراحوا يكيدون له بألوان من المكائد على رأسها التكذيب بصحيح السنن، والطعن والتشكيك في مصادرها الموثوقة.

وقد بدأ التشكيك في صحة نقل السنة في عصرنا مع ظهور الفكر الاستشراقي، ومقاصد من كرس جهوده لذلك لا تنأى عن المقاصد العامة لمتعصبي المستشرقين؛ الراجعة إلى إرادة تقويض دعائم الإسلام في عقول أهله بالتشكيك في أصوله.

والتوجه إلى الصحيحين خاصة، ولصحيح البخاري على وجه أخص بالنقد مراد منه هدم ثقة المسلمين بكتب السنة بعامة؛ لأنه متى تطرق الشك إلى أوثقها لم يكن الطاعنون بحاجة إلى الطعن فيما دونه.

وكما كان التصدي للوضاعين من قِبل أئمة الإسلام الأوئل هو واجب الوقت في زمانهم، فإن التصدي لتيار التكذيب من المشككين في السنة ومصادرها عامة والطاعنين في أحاديث صحيح البخاري خاصة هو واجب الوقت لدى المشتغلين بعلوم السنة اليوم، ومما يدعو لضرورة التصدي لنقد الطاعنين في صحيح البخاري وأحاديثه في هذا الوقت:

أولا: أن كتب وإنتاجات الطاعنين في البخاري منتشرة ميسرة التداول؛ خاصة في صيغها المرئية ونسخها الرقمية السهلة التناول، وآثارها في مواقف بعض الشباب بادية بما لا يخفى على متتبع كتاباتهم وإنتاجاتهم المرئية على شبكات التواصل.

ثانيا: أن فيما أبدوه من الشبهات ما هو قوي؛ إن قرأه خالي الذهن دون أن يتبعه بقراءة ما ينقضه أمكن أن يثمر لديه قناعة قوية بدعوى ضعف أو وضع ما يدعون ضعفه أو وضعه من أحاديث الصحيح.

ثالثا: أن هدم ثقة المسلمين بصحيح البخاري كفيل بهز ثقتهم في كل كتب السنة، وتشكيكهم من ثم في كل ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد ظهر عندنا في المغرب بعض المتطفلين على البحث العلمي والنقد الحديثي ممن يلتمس الشهرة من باب بول الأعرابي الذي بال في المسجد فاشتهر، ويبتغون الربح والمال من باب قول الله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة: 82]؛ فراموا الخروج عما أجمع عليه أهل المغرب في كل العهود من تعظيم الصحيحين مع موطأ الإمام مالك، والثقة بأحاديثها؛ باعتبارها أصح الكتب بعد كتاب الله، وما عهد عن أسلافهم من علماء وسلاطين من العناية بكتاب الجامع الصحيح للإمام البخاري، والذب عنه، وخدمته رواية ونسخا وحفظا وختما ودراسة وشرحا.

ومن هؤلاء الكويتب المدعو #رشيد_أيلال؛ وهو صحفي مغمور مريض بهوس #عشق_النجومية، لاهث وراء الشهرة والمال، مستعد لتحطيم كل القواعد وأن يبيع دينه وكرامته تلقاء ذلك، وقد أراد أن يجعل لاسمه موضعا بين أهل الفكر وأرباب القلم، وأن يسترزق بالطعن في مصدر من مصادر الإسلام؛ فأخرج كتابا جمعه من مواقع الإنترنت -وبالأخص مواقع الشيعة ومواقع نصارى العرب ومواقع العلمانيين الكارهين للإسلام- يبغي به إسقاط الثقة بكتاب #الجامع_الصحيح_للأمام_أبي_عبد_الله_محمد_بن_إسماعيل_البخاري، وسماه: (#صحيح_البخاري_نهاية_الأسطورة)، 

 


وقد ملأه بالأغاليط، وأثار فيه كمّاً غير يسير من الشبهات حول: شخص البخاري، وصحة نسبة جامعه الصحيح إليه، وصحة أحاديثة، وأثار جعجعة وضجة في حينه، وتلقاه بالترحيب من هواه تبع لما جاء فيه، وتناوله غير واحد من أهل الغيرة بالنقد والرد، ولكن الردود عليه ليس فيها - على كثرتها – نقد مستوعب يتجه إلى إبراز الخلل المنهجي فيه، ويستهدف أصول النقد التي أسس عليها ما رمى إليه من هدم الثقة بالبخاري وصحيحه.  

ورغبة في محاولة الإسهام في واجب الذب عن صحيح السنة بما هي مصدر من مصادر التشريع في الإسلام، بمدافعة تيار التكذيب ونقد أسس طعنه في صحيح البخاري؛ سننشر مقالات في بحث القيمة النقدية للكتاب المذكور، ونقد ما انبنت عليه أطروحته، في #مدونة_فضاء_للنقد_الباني.

وستعالج هذه المقالات المحاور التالية:

* الأول: في عرض أطروحة كتاب (#صحيح_البخاري_نهاية_الأسطورة) وأسسه في هدم الثقة بالبخاري وجامعه الصحيح .

* الثاني: في بحث أهلية جامع كتاب (#صحيح_البخاري_نهاية_الأسطورة) للنقد الحديثي.

* الثالث: في رصد بعض أوجه الخلل المنهجي في كتاب (#صحيح_البخاري_نهاية_الأسطورة).

* الرابع: في أحاديث صحيح البخاري التي طعن فيها الصحافي #رشيد_أيلال، ونقد الشبهات التي أثارها حولها.



[1]  هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص: 9.

تعليقات

التنقل السريع