البرهان العقلي
على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
برهان صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن نقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم ادعى النبوة، وظهرت المعجزة على وفق دعواه، وكل من كان كذلك كان رسولا حقا؛ ينتج أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله حقا.
أما المقدمة الأولى؛ وهي قولنا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم ادعى النبوة، وظهرت المعجزة على وفق دعواه، فتقريرها مبني على مقدمات:
المقدمة الأولى: وهي أن محمدا صلى الله عليه وسلم ادعى النبوة، والاعتماد في إثبات هذه المقدمة على الأخبار المتواترة؛ وتقريره: أنا سمعنا من أهل التواتر في عصرنا أنهم قالوا: سمعنا أهل التواتر...، وعلى هذا الترتيب نقل أهل التواتر عن أهل التواتر، إلى أن يصل هذا النقل إلى قوم قالوا: إنا شاهدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إني رسول الله إليكم، وقد عُلِم أن مثل هذا الخبر يفيد العلم القطعي، فعَلِمْنا بهذا الطريق أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان موجودا، وأنه كان يدعي أنه رسول الله.
المقدمة الثانية: أن المعجزات ظهرت على وفق دعواه، والاعتماد فيها على أن القرآن معجز، والقرآن ظهر على وفق دعواه، فصح أنه نبي، على أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له معجزات كثيرة سوى القرآن.
وضابط القول فيها أن نقول: معجزاته صلى الله عليه وسلم قسمان: حسية وعقلية.
أما الحسية: فثلاثة أقسام:
أحدها: أمور خارجة عن ذاته؛ كانشقاق القمر، واجتذاب الشجر، وتسليم الحجر عليه، وحنين الجذع، وشكاية البعير، وشهادة الشاة المسمومة...
القسم الثاني: أمور عائدة إلى ذاته؛ كخاتم النبوة بين يديه، وصورته الدالة بحكم الفراسة على نبوته؛ كما قال له عبد الله بن سلام إذ رآه أول مرة: «أشهد أن وجهك ليس بوجه كذاب».
القسم الثالث: أمور تتعلق بصفاته؛ وهي كثيرة منها:
ـ أن أحدا ما سمع منه لا في مهمات الدين ولا في مهمات الدنيا كذبا البتة.
ـ أنه ما أقدم على فعل قبيح لا قبل النبوة ولا بعدها.
ـ أنه ما فر من وجه عدو قط.
ـ أنه كان عظيم الشفقة والرحمة على الناس، حتى على الذين آذوه، وما عُلم مما جرت به العادة أن الكذابين المشعوذين لا يكونون كذلك.
ـ أنه كان في أعظم الدرجات في السخاوة.
ـ أنه ما كان للدنيا في قلبه وقع؛ وأن قريشا عرضوا عليه المال الكثير، وتزويجه أحسن النساء، وأن يسودوه ويرئسوه عليهم؛ ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إليهم، وأوذي في سبيل دينه كثيرا، فلم يغير ولم يبدل رغبا ولا رهبا، وليس ذا شأن الكذابين الذين إنما يطلبون الدنيا بالدين، ومتى عرضت عليهم صفقة ببيع الدين بالدنيا لم يترددوا في قبولها.
ـ أنه بقي على طريقته المرضية من أول عمره إلى آخره.
ـ أنه كان مع أهل الجدة على غاية الترفع، ومع أهل الخصاصة على غاية التواضع، وما هذا للكذابين المشعوذين بخلق؛ فقد عهد من شأنهم تعظيم الأغنياء وتقريبهم، وتحقير الفقراء وإقصاؤهم.
ـ أنه كان في كل واحدة من هذه الخصال وغيرها في الغاية القصوى من الكمال؛ فكان اجتماعها في ذاته من أعظم المعجزات.
وأما المعجزات العقلية فهي ستة أنواع:
الأول: أنه صلى الله عليه وسلم ظهر في قبيلة لا شأن لأهلها بالعلم، ولا كان فيها أحد من العلماء، ولم يتفق له أن سافر من بلدته إلا مرتين إلى الشام، وكان مقامه في الشام لمدة يسيرة، لم يلق فيها أحدا من العلماء، حتى يقال إنه إنما تعلم علمه منه.
فإذا خرج إنسان أمي من مثل هذه البلدة التي لم يعان أهلها شيئا من أسباب المعرفة، ثم بلغ من العلم مبلغا عجز جميع الأذكياء من العقلاء والعلماء عن بلوغه بل عن القرب منه؛ ثبت بالقطع عند كل من له عقل سليم وطبع مستقيم وتجرد عن الهوى أن هذه الأحوال لا تتيسر إلا بالتعليم الإلهي والوحي الرباني.
النوع الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لم يظهر منه خلال الأربعين سنة الأولى من عمره سعي في تحصيل شيء من علوم النبوة، وما ادعى عليه ذلك أحد من خصومه؛ ومعلوم أن من انقضى من عمره أربعون سنة ولم يخض في شيء من هذه المطالب العلمية، ثم إنه خرج على الناس فجأة، وأتاهم بعلوم وكلام عجز الأولون والآخرون ولا زالوا عن الإتيان بشيء من مثله؛ فصريح العقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا على سبيل الوحي والتنزيل.
النوع الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم ثبت على منهجه من الصبر والتحمل والزهد في المال والمتاع من أول يوم، ولم يحد عنه البتة مع ما تقلب فيه من الأحوال المختلفة؛ من حال كان فيها هو وصحبه مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، إلى حال قهر فيها الأعداء ودوخ العساكر، ونفذ أمرُه في الأموال والأزواج؛ فسار في الناس إذ صار قويا غالبا على ذات النهج والسيرة التي سار عليها إذ كان ضعيفا مغلوبا، وكل من أنصف علم أن المتنبئ الكذّاب لا يكون كذلك؛ إذ المتنبئ الكاذب إنما يتخذ الكذب والتزوير سُلَّما لينال الرياسة والجاه والمتاع، وإن لم يصل لبغيته لم يزل يتقلب في الأحوال بحسب ما يظنه موصلا إلى مرغوبه.
النوع الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم كان مجاب الدعوة؛ وقد نقل ذلك نقل تواتر ضمن وقائع كثيره؛ منها: إجابة الله دعاءه على قريش حين بالغوا في إيذائه، فدعا عليهم بشدة الوطأة وسنين كسني يوسف، وإجابته دعاءه على كسرى بتمزيق الملك إذ مزق كتابه إليه، ودعاءه على عتبة بن أبي لهب بأن يسلط الله عليه كلبا من كلابه؛ فأقبل إليه أسد وهو في سفر فأخذه من بين أصحابه، ودعاءه لعدة من الصحابة بالخير؛ كدعائه لابن عباس بالفقه في الدين وعلم التأويل، ولأنس بطول العمر وكثرة المال والولد، ولعمر بأن ينصر الله به الإسلام، ولأم أبي هريرة بالإسلام....
النوع الخامس: ورود البشارة ببعثته صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة من التوراة والإنجيل، وأن أهل الكتاب يعرفونه مما في كتبهم كما يعرفون أبناءهم.
النوع السادس: إخباره عن الغيوب في نصوص كثيرة؛ بعضها في القرآن وبعضها في الحديث، وكل ما أخبر به جاء على وفق ما أخبر به حذو القذة بالقذة..
وبمجموع ما ذكر يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ادعى الرسالة وظهرت المعجزات على وفق دعواه، وهي المقدمة الثانية من الدليل.
المقدمة الثالثة: أن كل من ادعى الرسالة وظهرت المعجزة على وفق دعواه كان صادقا في دعواه، والذي يدل على هذه المقدمة: أن المعجزات لما عجز عنها الخلق دل ذلك على أنها فعل من أفعال الخالق؛ خَلَقه عقب دعوى النبي، وخلق المعجزة بعد الدعوى أو بعد طلب مدعي النبوة تصديقٌ لمدعي الرسالة؛ لأنها كما لو قال سبحانه: صدق هذا العبد في خبره.
وإذا صح بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم ادعى الرسالة وجاءت المعجزات على وفق دعواه، فهو نبي رسول قطعا، وإذا كان رسولا، فهو صادق في أخباره، وإذا ثبت بالقطع صدقه في أخباره، صح بالضرورة ما قد أخبر من أن النبوة حق وأن الله ما ترك أمة إلا بعث فيهم رسولا، وصَدَقَ ضرورةً كلُّ ما أخبر به عن الله من الغيبيات، ومن المطالب الدينية.
انتهى ملخصا مع تصرف من كتاب الأربعين في أصول الدين؛ لفخر الدين الرازي.
كتبه: الحسين بودميع
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا