د. الحسين بودميع
ذكر بعض متأخري الأشعرية أن من آيات وأحاديث الصفات ما لو أخذ بظاهره مِن غير تمييز بين ما يستحيل ظاهره على الله تعالى وما لا يستحيل لوقع الآخذ به في الكفر؛ ذكر ذلك الشيخ أحمد الرافعي (ت 578هـ)، والإمام السنوسي (ت 895هـ)، وأحمد الصاوي (ت 1241هـ)، والشيخ عليش المالكي (ت 1299هـ)، وغيرهم.
ففي كتاب البرهان المؤيد للشيخ أحمد الرافعي: "فعاملوا الله بحسن النيات، واتقوه في الحركات والسكنات، وصونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة، لأن ذلك من أصول الكفر؛ قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران: 7]"([1]).
وفي شرح الكبرى للسنوسي: "وأما من زعم أن الطريقَ أبدا إلى معرفة الحق: الكتابُ والسنةُ، ويُحَرّم ما سواهما؛ فالرد عليه: أن حجتيهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي، وأيضاً فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كَفَر عند جماعة، وابتَدَع [أي عند أخرى]"([2]).
وقال رحمه الله في شرح أم البراهين: "ولهذا قيل: إن أصول الكفر ستة: الإيجاب الذاتي، والتحسين العقلي...، والتمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية، للجهل بأدلة العقول، وعدم الارتباط بأساليب العرب، وما تقرر في فني العربية والبيان من ضوابط وأصول"([3]).
وقال في كتاب المقدمات: "وأصول الكفر والبدع سبعة: الإيجاب الذاتي...، والتمسك في عقائد الإيمان بمجرد ظواهر الكتاب والسنة، من غير تفصيل بين ما يستحيل ظاهره منها وما لا يستحيل"([4]).
وقال الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين: "قوله: (بوقوعهم في الشبهات واللبس)، أي كنصارى نجران، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذَ بظواهر الكتاب والسنة"([5]).
وقال في موضع آخر من حاشيته: "ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قولَ الصحابة والحديثَ الصحيح والآيةَ، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر؛ لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر"([6]).
ووقع في فتاوى الشيخ عليش المالكي (ت 1299هـ): "ولأن كثيرا من القرآن والأحاديث ما ظاهره صريح الكفر، ولا يعلم تاويله إلا الله والراسخون في العلم"([7]).
وقد اتخذ بعض إخواننا "السلفيين" الحنابلة من هذه النصوص تكئة لتأكيد مقولاتهم النقدية للمنهجية الأشعرية، وتعزيز نزوعهم إلى تضليل الأشاعرة، والتشنيع عليهم، ويسوقونها تارة في مقام الزعم بأن الأشاعرة يتوسعون في تكفير المخالف، وتارة في مقام اتهامهم بإهدار قيمة نصوص الوحي، وعدم الاعتداد بها في إثبات العقائد.
فمن إيراد بعض هذه النصوص في مقام الزعم بأن الأشاعرة يتوسعون في التكفير ما جاء في كتاب: (التعليق العقدي لفلاح بن إسماعيل مندكار)، لباحثة "سلفية": "وأما الأشاعرة فهم أيضا يقررون تكفير المخالف لهم...، وقال أئمتهم: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية أصل من أصول الكفر"([8]).
ومن سوقها في مقام اتهام الأشاعرة بإهدار قيمة نصوص الوحي وعدم توقيرها أنْ عَدّ أحدهم من أهم سمات أهل الكلام "قلة تعظيم النصوص الشرعية، والزعم بأنها لا تفيد اليقين، ومعارضتها بأوهام العقول، بل صرح بعض المتكلمين أن الأخذ بظواهر النصوص الشرعية من أصول الكفر؛ قال السنوسي: أصول الكفر ستة..."([9])؛ فحكى كلامه السابق.
وخص بعضهم لنقد هذا الأصل مؤلفا مفردا؛ سماه: (تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران)، وهو مخصص للرد على قول الشيخ الصاوي المذكور في الموضعين السابقين من حاشيته على تفسير الجلالين، وقد بالغ هذا المؤلف في إساءة الظن بالشيخ الصاوي، وذهب بعيدا في استنكار قولته حتى عدها طعنا في صميم الدين، وحطا من شأن القرآن، وحكما بالزيغ والكفر على من أخذ بنصوصه؛ فقال في مقدمة الكتاب: "قال بعضهم ـ ويا ليته ما قال ـ: إن الأخذ بظواهر القرآن والسنة من أصول الكفر، ولم أسمع من أحد استنكارا ولا ردا على هذه المقالة التي طعن بها الدين في صميمه، والتي مؤداها الحط من شأن القرآن وقيمته...، كيف يصدر هذا القول من عالم مسلم؟ وهل مرجع الناس في دينهم إلا إلى الكتاب والسنة؟ ... وكيف لا يُستنكَر هذا القول وهو قد أتى على الشرع من قواعده، وضرب الدين في صميمه، وحط من شأن القرآن، وحكم بالزيغ على من أخذ بالدليل والبرهان...، وإذا كان الشيخ من المهتدين، فمن أين جاءته الهداية؟ فإن قال: من القرآن والسنة، وأقوال العلماء المهتدين، فيقال له: القرآن والسنة جعلتهما من أصول الكفر؛ فلا تفيدك دعوى الاهتداء بهما"([10]).
كما تعرض لنقد قولة الصاوي المذكورة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان، وشدد فيه النكير على الشيخ الصاوي، حتى جعل قولته انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله ع، وتنفيرا للناس عن القرآن والسنة، وعد من لوازمها: وجوب ترك الأخذ بظواهر نصوص الوحي؛ حيث جاء في رده أن "قوله: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ...من أشنع الباطل وأعظمه، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله ع...، والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا، لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه أشد من بعد الشمس من اللمس...، لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده، وتنفذ به أوامره، وينصف به بين عباده في أرضه.
فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله، وسنة رسوله، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من
أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى.
وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر، ويتباعد منها كل التباعد ويتجنب أسبابها كل الاجتناب، فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي"([11]).
ما حقيقة أقوال العلماء الأشاعرة المذكورين؟
إن إنكار "السلفيين" الحنابلة ما قرره بعض العلماء الأشاعرة بشأن التمسك بظواهر بعض متشابه النصوص ومآله، ومبالغتَهم في التشنيع على قائليه من غير مراعاة لمقاصدهم، وتفهم لمراميهم؛ إمعانٌ بَيّنٌ منهم في شين المذهب الأشعري، وتضليل أتباعه، ولو تحرر هؤلاء النقدة من عقدة التعصب على الأشاعرة، وما ترتب عنها من المبالغة في سوء الظن بهم، وربطوا كلامهم المذكور بسياقاته، لبان لهم أن ما قاله هؤلاء الشيوخ الأشاعرة في غاية الصحة، وليس فيه أدنى تجن على نصوص الكتاب والسنة، ولظهر لهم أن تشنيعهم غلط وسوء ظن في غير موضعه.
فإن هؤلاء العلماء الذين تكلموا عن مآل التمسك بظواهر بعض المتشابهات ما منهم أحد إلا وهو من أهل العلم والديانة، المشهود لهم بتعظيم شعائر الله والذب عنها، والذي يقتضيه واجب حسن الظن بعلماء المسلمين أن لا يحمل كلامهم على أنه طعن في الكتاب والسنة، وانتهاك لحرمتهما، وتنفير للناس وإبعاد لهم عنهما، بل يحمل على أنه تحذير من الجمود على بعض الظواهر التي لا خلاف في أنها غير مرادة، والتي يفضي التمسك بها إلى نسبة عيب أو نقص إلى الباري تعالى.
ويظهر من كلام الكتاب "السلفيين" السالف الذكر أن غلطهم ـ فضلا عن آفة التعصب ـ ناشئ عن أمرين:
الأول: الخلط بين ظواهر النصوص وبين النصوص نفسها؛ مما حدا بهم إلى اتهام العلماء المذكورين بالطعن في نصوص القرآن والسنة، وأنهم يعدون التمسك بها من أصول الكفر؛ كما أوهمه عنوان كتاب أبي طامي: (تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران)، وقوله في مقدمته: (وإذا كان الشيخ من المهتدين، فمن أين جاءته الهداية؟ فإن قال: من القرآن والسنة...، فيقال له: القرآن والسنة جعلتهما من أصول الكفر)؛ حيث جعل (ظواهر القرآن والسنة) هي نفس القرآن والسنة؛ وفرق كبير بين (ظاهر النص) وبين (النص نفسه) على المعنى المراد.
ولو ألزم هذا الكاتبُ نفسَه التدقيقَ والإنصافَ وجانب أسلوبَ التلبيس؛ لعبر في عنوان الكتاب بالقول: (تنزيه ظواهر السنة والقرآن...)، وليس (تنزيه السنة والقرآن...)، ولجعل العبارة الأخرى: (ظواهر القرآن والسنة جعلتَها من أصول الكفر)، لا أن يقول: (القرآن والسنة جعلتهما من أصول الكفر).
الثاني: حمل كلام الشيوخ الأشعريين المذكور على جميع الظواهر القرآنية والحديثية لا على بعضها، والحال أن كلام العلماء الأشاعرة ليس فيه أن التمسك بجميع ظواهر الكتاب والسنة يفضي إلى الكفر؛ كما أوهمه الشنقيطي في قوله: (لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده...، فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله، وسنة رسوله، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه)؛ فإن الصاوي وإن أطلق العبارة ولم يقيدها ببعض الظواهر، فإنه إنما يحكي ذلك عمن سبقه من العلماء، والعلماء السابقون عنه كما قد رأيت يقيدون التمسك المفضي إلى الكفر ببعض الظواهر.
وقصدهم بالظواهر التي قد يفضى التمسك بها إلى الكفر: بعض ظواهر النصوص المتشابهة من آيات وأحاديث الصفات، وقد صرحوا في نصوصهم بهذا التقييد؛ ففي كلام الرافعي المذكور: (وصونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة)، وهو الذي دل عليه كلام الشيخ عليش؛ إذ قال: (ولأن كثيرا من القرآن والأحاديث ما ظاهره صريح الكفر، ولا يعلم تاويله إلا الله والراسخون في العلم)؛ فالذي لا يعلم تاويله إلا الله هو المتشابه، وفي كلام السنوسي: (فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كَفَر عند جماعة)؛ حيث جعل هذا الحكم لبعض الظواهر لا لكلها، وقد بين قصده من كلامه في شرح المقدمات، ومَثَّل للظواهر التي يريدها؛ فقال: "وأما الأصل السادس، وهو التمسك في عقائد الإيمان بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير تفصيل بين ما يستحيل ظاهره منها وما لا يستحيل؛ فلا خفاء في كونه أصلا للكفر والبدعة؛ أما الكفر فكأخذ الثنوية القائلين بألوهية النور والظلمة من قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) [النور: 35] أن النور أحد الإلهين، ولم ينظروا إلى استحالة كون النور إلها؛ لأنه متغير حادث"([12]).
ومَثَّلَ الشيخ الصاوي لمراده بالظواهر التي قال العلماء: إن التمسك بها مفض إلى الكفر؛ بقوله: (كنصارى نجران، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن)؛ وقصده بالمثال: ما أورده ابن هشام عن ابن إسحاق، قال: "وقدم على رسول الله ع وفد نصارى نجران: ستون راكبا...، فكلم رسولَ الله ع منهم أبو حارثة بنُ علقمة، والعاقبُ عبد المسيح، والأيهمُ السيدُ، وهم من النصرانية على دين الملك...؛ يقولون: هو الله، ويقولون: هو والد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة...، ويحتجون في قولهم: (إنه ثالث ثلاثة) بقول الله: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا: فعلتُ، وقضيتُ، وأمرتُ، وخلقتُ، ولكنه هو، وعيسى، ومريم"([13]).
وقد ذكر ابن تيمية في الجواب الصحيح أن ما احتج به نصارى نجران من المتشابه الذي يتبع ظاهرَه أهلُ الزيغ؛ فقال: "فاحتجوا على التثليث بصيغة الجمع، وهذا مما احتج به نصارى نجران على النبي [ع]، فاحتجوا بقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنًُ)؛ قالوا: وهذا يدل على أنهم ثلاثة، وكان هذا من المتشابه الذي اتبعوه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"([14]).
ومراد الشيخ الصاوي بمن حذا حذو نصارى نجران من جاء بعدهم من النصارى الذين تواردوا على الاستناد إلى ظاهر إسناد ضمائر المتكلم الجمع إلى الله في القرآن لتأييد عقيدتهم في التثليث.
فقد جاء في رسالة عبد المسيح الكندي إلى الهاشمي: "ودانيال النبي يخبرنا في كتابه أن الله قال لبختنصر: لك نقول يا بختنصر، ولم يقل: لك أقول، وفي كتابك أيضًا شبيه بما ذكرنا من قول موسى، ودانيال عن الله تعالى: فعلنا، وخلقنا، وأمرنا، وأوحينا، وأهلكنا، ودمرنا، مع نظائر لهذه كثيرة، أفيشك أحد يعقل في أن هذا القول قولُ شتى [أي قولُ متعددٍ] لا قول فرد"([15]).
وفي ميزان الحق، للمبشر البريطاني (Dr. Carl Pfander): "ومما لا يصح إغفاله أن القرآن يتفق مع الكتاب المقدس في إسناد الفعل وضمير المتكلم في صيغة الجمع إلى الله...؛ حيث يقول: (سندع الزبانية)...، وليس لنا أن نخوض في شرح القرآن، إنما أوردنا ذلك إشعارا بأننا لا نخطئ إذا اعتبرنا عقيدة التثليث موافقة لإسناد ضمير الجمع إلى الله في القرآن"([16]).
فظاهر قول الله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، الذي تمسك به الثنوية لتأييد معتقدهم في كون النور أحد إلهي الكون.
وظاهر مثل قول الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ). [يس: 12]، الذي تمسك به النصارى لتأييد اعتقادهم في التثليث([17]).
أنموذجان يوضحان بما لا يدع مجالا للبس مراد بعض علماء الأشعرية بأن التمسك ببعض ظواهر النصوص قد يفضي إلى الكفر، أو هو من أصول الكفر، ولتزداد بصيرة بمرادهم وصحة كلامهم دونك الأمثلة التالية:
1- ظاهر قول الله تعالى: (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ) [السجدة: 14]؛ ظاهره: إضافةُ النسيان ـ وهو الغفلة والذهول ـ إلى الله تعالى، ومعناه المراد: أن الله يترك الكافرين ويهملهم في النار ويعاملهم معاملة من نسيهم.
قال الحافظ ابن كثير: "(إِنَّا نَسِينَاكُمْ)؛ أي سنعاملكم معاملة الناسي, لأنه تعالى لا ينسى شيئاً، ولا يضل عنه شيء, بل [ذلك] من باب المقابلة"([18])؛ فقد صرف رحمه الله الآية عن ظاهرها؛ معللا بأن ظاهرها منفي عن الله تعالى، وذلك الظاهر المستحيل ونظائره هو الذي عد الأشاعرة التمسك به من أصول الكفر؛ ذلك أن اعتقاد ظاهر الآية كفر؛ لأن النسيان عيب، ولا شك أن اعتقاد أن الله ينسى كفر، وهو مناف لقوله تعالى المحكم: (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) [طه: 52].
وإنكارنا لظاهر الآية لا يلزم عنه الطعن في الآية نفسها، بل نقول: إن اعتقاد ظاهرها كفر، واعتقاد معناها على مراد الله إيمان.
2- ظاهر قول الله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) [المجادلة: 7]
وقوله: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]؛ إشارة إلى قول النبي ع لأبي بكر إذ هما في الغار: "مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"([19])، وقولُه لموسى وهارون: (إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ل[طه: 46]...؛ وقوله تعالى في الحديث القدسي: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِى عِنْدَهُ"([20])، وغيرها من نظائرها؛ ظاهرها: حلول الله بذاته بين عباده في الأرض ومخالطته لهم، وهذا الظاهر غير مراد، واعتقاده كفر، وهو مناف لما يجب من تعظيم الله تعالى وتقديره حق قدره، ولقوله تعالى: (وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ). [الزمر 67]؛ إذ كيف يحل في جزء من الأرض، ويسعه، والأرض جميعا قبضته؛ لهذا وجب صرف هذه النصوص عن ظاهرها، وحملها على معنى أن الله يكون مع عموم عباده بعلمه، ومع خصوص أوليائه بعلمه وتأييده ونصره.
وإنكارنا لظاهر هذه النصوص، وقولنا: إن اعتقاده كفر ليس إنكارا لذات النصوص، أو طعنا فيها، بل هو تنزيه لله عن ظواهر غير مرادة له أو لرسوله.
3- ظاهر قول الله تعالى في الحديث القدسي: "يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي"([21])؛ ظاهره: نسبة المرض إلى الله تعالى، واعتقاد ذلك كفر، لهذا ورد في آخر الحديث نفسه ما يبين أن هذا الظاهر غير مراد، وأن معنى قوله تعالى: (مَرِضْتُ)؛ أي مرض عبدي.
4- ظاهر قوله تعالى في حديث قدسي آخر: "وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"([22])؛ ظاهره: نسبة الركض نحو العبد إلى الله تعالى؛ إذ ذلك هو حقيقة الهرولة في لسان العرب، واعتقاد هذا الظاهر غير جائز، فلهذا صرف العلماء الحديث عن ظاهره إلى معنى يليق بالله تعالى؛ ومما قيل في تأويل الحديث ما حكاه أبو القاسم البغوي في شرح السنة عن بعض أهل العلم قال: "إن معناه: إذا تقرب إلي العبد بطاعتي واتباع أمري، تتسارع إليه مغفرتي ورحمتي"([23]).
فمثل هذه النصوص الشرعية لو تمسكنا بظواهرها؛ لاعتقدنا ما لا يجوز اعتقاده في الله تعالى؛ كإضافة النسيان، والمعية الذاتية، والمرض، والهرولة إليه سبحانه وتقدس عن ذلك.
ولو قال قائل: إن التمسك بظاهر: (إِنَّا نَسِينَاكُمْ)، وظاهر: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)، وظاهر: (مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي)، وظاهر: (أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) من أصول الكفر، لكان كلامه في غاية الصحة، ولما جاز لنا أن نتهم هذا القائل بأنه يطعن في نصوص الوحي، وينفر الناس من العمل بها، كما جاء في الاتهامات التي كالها "السلفيون" الحنابلة لمن قال من العلماء الأشاعرة: إن التمسك ببعض الظواهر من أصول الكفر.
فإنما مرادهم مثل هذه الظواهر، وليس قصدهم أن العمل بنصوص الوحي يفضي إلى الزيغ والكفر كما أطلقه بغيا بعض نقاد الأشعرية من "السلفيين".
[1] البرهان المؤيد لصاحب مد اليد مولانا الرفاعي أحمد؛ رواية تلميذه: شرف الدين الهاشمي الواسطي، ط. مكتبة الرحمة المهداة، المنصورة - مصر، الطبعة.1، (1437هـ)، ص: 11.
[2] شرح العقيدة الكبرى، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة.1، (2006هـ/1427م)، ص: 59-60.
[3] شرح أم البراهين مع حاشية الدسوقي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، (2000م)، ص: 292.
[4] شرح المقدمات للسنوسي، تحقيق: نزار حمادي، ط. مكتبة المعارف، الطبعة.1، (1430هـ/2009م)، ص: 111.
[5] حاشية الصاوي على تفسير الجلالين، ط. دار الجيل، بيروت، (بلا تاريخ): 1/131.
[6] نفسه: 3/9.
[7] فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك؛ لأبي عبد الله الشيخ محمد أحمد عليش، ط. دار المعرفة، بيروت، (بلا تاريخ): 1/90.
[8] سجى ديولي الديولي، "التعليق العقدي لفلاح بن إسماعيل مندكار+، ط. مكتبة آفاق للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة.1، (1442هـ/2020م)، ص: 131-132.
[9] أبو سفيان سامح بن علي السعودي، "الأنجم الزاهرات فيما عند الأشاعرة من التناقضات+، ط. دار اللؤلؤة، المنصورة – مصر، (2018م)، ص: 51-52.
[10] أحمد بن حجر آل أبوطامي، "تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران+، ط. دار العصيمي، الرياض، (1413هـ/1993م)، ص: 8-10.
[11] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ط. دار الفكر، بيروت، (1415هـ/1995م): 7/65-70.
[12] شرح المقدمات، ص: 117.
[13] السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، ط. دار الجيل، بيروت، (1411هـ): 3/112-115.
[14] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، دراسة وتحقيق: علي بن حسن الألمعي وغيره، ط. دار الفضيلة، الرياض، الطبعة.1، (1424هـ/2004م): 4/317.
[15] رسالة عبد المسيح الكندي إلى الهاشمي يرد بها عليه ويدعوه إلى النصرانية، ط. مطبعة Glbert، لندن، (1885م) ، ص36 .
[16] ميزان الحق، ترجمة: د. تاسيدال (Tasidall)، ط. دار الهداية، مركز الشبيبة، سويسرا، (1983م): 2/244.
[17] اعتماد النصارى على ظاهر إسناد ضمائر المتكلم الجمع إلى الله في القرآن لتأييد عقيدتهم في التثليث، في غاية الوهن والضعف؛ فإن العرف قد جرى في كل اللغات أن يتحدث الكبراء عن أنفسهم بصيغة الجمع تعظيما وتفخيما، وعليه جرى أسلوب القرآن، ثم إن الجمع لا ينحصر في ثلاث؛ حتى يصح ذلك مستندا لتأييد عقيدة التثليث، فلو صح ذلك دليلا على تعدد الإله، لم يكن الاستدلال به على كون الإله ثلاثة أولى من الاستدلال به على كونه أربعة أو خمسة.
[18] تفسير القرآن العظيم: 3/554.
[19] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)، رقم (4386).
[20] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض، رقم (2569).
[21] نفسه.
[22] صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه)، رقم (6970).
[23] شرح السنة، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، ط. المكتب الإسلامي، دمشق ـ بيروت، الطبعة.2، (1403هـ/1983م): 5/26.
أضيف إلى ما تفضلتم به أن الشيخ ابن عصيمين عد قوله صلى الله عليه و سلم في القدسي:"مرضت"...ظاهر الحديث. ثم فسره...
ردحذفتقصد ابن عثيمين؟ أين ذكر هذا؟ وبماذا فسر لفظ الحديث؟ بارك الله فيكم
حذف