هل تاب إمام الحرمين أبو المعالي الجويني
ورجع عن المذهب الأشعري؟
(Did Abu Al-Maali Al-Juwayni repent from the Ash'ari school?)
بقلم: د. الحسين بودميع
الإمام أبو المعالي إمامُ الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني (ت 478هـ) من أئمة الأشاعرة الذين يدرجهم بعض الباحثين "السلفيين" في سلسلة التائبين من العقيدة الأشعرية، المهتدين إلى ما يعدونه "مذهب السلف"؛ ومعتمدهم في ذلك أمران:
الأمر الأول: ما جاء في كتابه غياث الأمم، ص: 190 من نصح الإمام بأن يجمع الأمة على ما كان عليه السلف قبل ظهور البدع والأهواء؛ حيث قال: «والذي أذكره الآن لائقاً بمقصود هذا الكتاب، أن الذي يحرص الإمام عليه جمع عامة الخلق على مذهب السلف السابقين قبل أن نبغت الأهواء وزاغت الآراء»، وكذا اختياره مذهب تفويض معاني نصوص الصفات وإمرارها بلا تأويل في كتاب العقيدة النظامية؛ إذ قال: «وقد اختلفت مسالكُ العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق اعتقادُ فحواها، وإجراؤها على موجَب ما تبتدره أفهامُ أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم هذا المنهج في آي الكتاب وما يصح من سنن الرسول ع، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراءِ الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقلاً: اِتِّباعُ سلفِ الأمةِ، فالأَوْلَى الاتباعُ وتركُ الابتداع...، فحقٌ على ذي دين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تبارك وتعالى». العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، تحقيق وتعليق: محمد زاهد الكوثري، ط. المكتبة الأزهرية للتراث، (1412هـ/1992م)، ص: 32.
الأمر الثاني: ما نُسب إليه من الوصية بتجنب الخوض في علم الكلام في آخر عمره؛ مثل ما حكاه ابن تيمية في مجموع الفتاوى في قوله: «وهذا إمام الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره، واختار مذهب السلف، وكان يقول: (يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به)، وقال عند موته: (لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت فيما نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنذا أموت على عقيدة أمي، - أو قال -: عقيدة عجائز نيسابور) ». مجموع الفتاوى: 4/72-73.
وكل من الأمرين لا دليل فيه على ما يرومه "السلفيون" من شين المذهب الأشعري والحكم بانحراف عقائد الأشاعرة؛ إذ ليس في أي من الأمرين ما يدل على رجوع الإمام عن معتقده؛ فغاية ما في الأمر الأول: أنه رجح أحد مسلكي الأشاعرة في التعامل مع ظواهر النصوص المتشابهة، وهو مسلك التفويض؛ على المعنى الصحيح للتفويض كما هو عند السلف؛ وهو إمرار النص كما جاء بلا تكييف ولا تفسير، وتفويض معناه إلى الله تعالى؛ كما هو صريح قوله: (وإجراءِ الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى)، وقوله: (ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب تبارك وتعالى)، وهو إذ اختار آخِراً مسلك التفويض لم يقض بتضليل من اتبع مسلك التأويل، بل عده أحد مسلكي أهل الحق؛ فقال: (وامتنع على أهل الحق اعتقادُ فحواها، وإجراؤها على موجَب ما تبتدره أفهامُ أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها)؛ فالضمير في (بعضهم) يعود على (أهل الحق)؛ أي رأى بعض أهل الحق تأويلها.
على أن تفويض نصوص الصفات المشكلة مطلقا كيفا ومعنى –الذي اختاره إمام الحرمين- يعده ابن تيمية ومقلدوه شر البدع وأخبثها؛ قال سليمان بن سحمان النجدي وهو أحد شيوخ الوهابية المقدمين: «وقد تقدم التنبيه على أن السلف رضوان الله عليهم قد فسروا آيات الصفات وأحاديثها، وبينوا من معانيها ونهوا عن تأويلات الجهمية، وذكرنا ما ذكره شيخ الإسلام من أن مذهب أهل التفويض أشر المذاهب وأخبثها، ونسبة ذلك إلى السلف من الكذب عليهم». تنبيه ذوي الألباب السليمة عن والوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة، عناية وتخريج: عبد الرحمن بن يوسف الرحمة، ط. مكتبة الصحابة، الشارقة، ومكتبة التابعين، القاهرة، الطبعة.1، (1418هـ/1998م)، ص: 89-90.
ويقصد بما ذكره ابن تيمية عن التفويض قولَه في درء التعارض: «فتبين أن قول أهل التفويض، الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف، من شر أقوال أهل البدع والإلحاد». درء تعارض العقل والنقل: 1/205.
وإذا كان ما اختاره الجويني في النظامية من التفويض "شر المذاهب وأخبثها"، و"من شر أقوال أهل البدع والإلحاد" في معتقد "السلفيين" ومتبوعهم؛ فكيف يصح أن يقال على رأيهم: إن الجويني رجع إلى معتقد السلف؟ كما جازف بإطلاقه بعضهم في النقول التالية:
ـ قول ناصر العقل: «ورجوع كثير منهم إلى التسليم، وتقرير ما يعتقده السلف...؛ كما حصل للإمام أبي الحسن الأشعري، حيث رجع إلى عقيدة أهل السنة والجماعة...، ومثله أبو محمد الجويني...، ومثله إمام الحرمين، (ت478هـ) في (الرسالة النظامية)». مباحث في العقيدة، ط. دار الوطن، الرياض، الطبعة.1، (1412هـ)، ص: 26.
ـ قول عبد الرحمن المحمود: «فالجويني مثلا اشتهرت كتبه الأشعرية؛ كالشامل، والإرشاد، ولمع الأدلة، وتناقلها الناس، لكن رجوعه في آخر عمره إلى عقيدة السلف، وما سطره في النظامية لا يكاد يُعتمَد على أنه قوله ومذهبه الذي يجب أن ينسب إليه». موقف ابن تيمية من الأشاعرة: 1/386.
قول محمد الجامي: «الجويني الابن: ترجمتُ لهذا الإمام، وتحدثت عنه حديثاً أوضحت فيه ندمه في آخر حياته على خوضه في علم الكلام، إلى أن رجع إلى مذهب السلف، ومما يعبر عن رجوعه رسالته المعروفة باسم (النظامية)». الصفات الإلهية، ص: 342.
ومما يزيدك بصرا بأن كلام "السلفيين" عن رجوع الجويني وغيره من أئمة الأشاعرة عن معتقدهم محض تقليد لا تحقيق فيه ولا تدقيق أن إمام الحرمين قرر في النظامية سائر أبواب العقيدة على طريقة ومذهب الأشاعرة، فلو صح أنه رجع عن التأويل إلى المسلك الذي يرتضيه "السلفيون" ـ وهو ما لم يقع كما قد رأيت ـ فما العمل بباقي الأبواب التي جرى فيها على خلاف مذهب متأخري الحنابلة الذي يعدونه هو مذهب السلف، وقرر فيها جميعا مذهب الأشاعرة؟
* فراجع النظامية تجده مثلا ينفي حوادث لا أول لها مطلقا بالنوع وبالجزء؛ يقول رحمه الله: «ومن أثبت حوادث منفصلة لا نهاية لها إلى غير أول، فقد جمع بين الحدوث والحكم بالقدم، ومن انتهى معتقده إلى إثبات حوادث أزلية فقد انسل من مقتضى العقول؛ فإن مقتضى الحوادث الابتداء عن عدم، والأزل يشعر بنفي الأولية». العقيدة النظامية، ص: 20. وابن تيمية يثبت تسلسل الحوادث في الماضي، ومن معتقد "السلفيين" أن كل قول قال به ابن تيمية فهو من عقائد السلف.
* وتجده ينفى الجهة عن الله فيقول: «فذهبت طوائف إلى وصف الرب بما تقدس في جلاله عنه من التحيز بالجهة». نفس المصدر، ص: 22. وتنزيه الله تعالى عن الجهة معلوم من مذهب الأشاعرة، و"السلفيون" يرون ـ تبعا لابن تيمية ـ أن نفي الجهة مخالف لما كان عليه السلف.
* ويقرر ما عُلم من مذهب الأشاعرة في صفة كلام الباري تعالى؛ فيقول: «ثم معتقد أهل الحق أن كلام الله تعالى ليس بحروف منتظمة، ولا أصوات منقطعة، وإنما هو صفة قائمة بذاته تعالى». نفس المصدر، ص: 27. ولا يخفى ما بين المذهبين من طول جدل في صفة كلام الباري ومسألة الحرف والصوت.
فأين الندم والرجوع إذن عن العقيدة الأشعرية؟؟!!!!
أما وصيته في آخر حياته بتجنب الخوض في علم الكلام، فليس فيها ـ على فرض صحتها ـ أنه ندم على ما كان عليه من العقائد؛ فإن علم الكلام غير العقائد الدينية، وإنما هو آلة ومنهج في إثباتها والدفاع عنها، لهذا نجد المتكلمين قد تتحد مناهجهم مع اختلاف عقائدهم، فنجد في أهل الكلام الرافضي والمعتزلي والسني والسمني والنصراني، وهم يتوسلون بذات الآلة لإثبات عقائدهم والدفاع عنها مع اختلافها.
وقد وقع في كلام الشيخين ابن تيمية وابن القيم إطلاق اسم (المتكلم) أو (المتكلمين) على بعض أهل السنة، وصرح ابن تيمية بأن المتكلمين موجودون في كل الطوائف؛ من أهل السنة والكرامية، والشيعة، والمعتزلة، والجهمية، بل بما يفيد وجودهم في أهل الملل الأخرى:
يقول ابن القيم: «قول متكلم السنة إمام الصوفية في وقته؛ أبو العباس أحمد بن محمد المظفري المختار الرازي، صاحب كتاب فرع الصفات في تقريع نفاة الصفات». اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ط. دار الكتب العلمية، ط.1، (1404هـ/1984م): 1/196.
وفي مجموع الفتاوى لابن تيمية: 3/190.: «فقلت: أما متكلمو أهل السنة فعندهم أن وجود كل شيء عين ماهيته»
وفي كتاب التسعينية له: 1/254: «وإذا كان كذلك فأولئك المتكلمون من المشركين والسمنية الذين ناظروا الجهم قد غالطوا الجهم ولبسوا عليه».
وفي بيان التلبيس: 2/473: «بل هذا قول محدث في الاسلام ابتدعه متكلمو المعتزلة ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم وقد نازعهم في ذلك طوائف من المتكلمين من المرجئة والشيعة وغيرهم».
وفيه: 2/474: «وهذه التي يسلكها هؤلاء النظار المتكلمون من المتفسلفة ومتكلمي أهل الملل».
ووجود المتكلمين في كل المذاهب والملل مما يرشدك إلى أن علم الكلام ليس هو العقيدة نفسها؛ فلا يلزم عن إقلاع المتكلم عن الخوض في علم الكلام تخليه عن عقيدته؛ إذ هو آلة لإثبات العقائد، ولا يلزم من ترك الاشتغال بالآلة التخلي عن الغاية التي يتوسل بها إليها، وهي القناعات العقدية؛ فتنبه.
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا