حقيقة نسبة (رسالة في إثبات الاستواء والفوقية والحرف والصوت)
إلى أبي محمد الجويني وصلتها بدعوى رجوعه عن العقيدة الأشعرية؟
)Did Abu Muhammad al-Juwayni return from the Ash'ari belief?(
بقلم: د. الحسين بودميع
سبق أن ذكرنا في مقالة سابقة أن الطاعنين في المذهب الأشعري يصرون في كل مناسبة على إثارة دعوى ندم رؤوس الأشاعرة في آخر حياتهم، ورجوعهم عما كانوا عليه من العقائد إلى ما يعتقدون أنه هو مذهب أهل السنة والجماعة، أو مذهب السلف، وترديدها لإقناع من يتلقى عنهم بزعم انحراف مذهب الأشاعرة ومخالفته لما كان عليه السلف من العقائد، وأن ممن ادعوا توبتهم ورجوعهم عن المذهب الأشعري الإمام أبو محمد الجويني، والد إمام الحرمين أبي المعالي الجويني.
ومستندهم في هذه الدعوى: نسبتهم إلى أبي محمد الجويني كتاب (رسالة في إثبات الاستواء والفوقية والحرف والصوت)؛ الذي صرح مؤلفه في مقدمته بحيرته وتوبته، ورجوعه عما كان عليه إلى مذهب السلف.
وقد صرح غير واحد من الشيوخ والباحثين "السلفيين" بنسبة هذه الرسالة إلى أبي محمد، وبنوا على ذلك دعوى رجوعه عن العقيدة الأشعرية إلى مذهبهم؛ الذي هو مذهب السلف في اعتقادهم.
نقل سفر الحوالي كلاما لابن تيمية في مجموع الفتاوى ينتقد فيه بعض ما رآه في فتاوي أبي محمد العز بن عبد السلام؛ أوله: (وكذلك رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد فتوى طويلة فيها أشياء حسنة...)، وأدرج فيه توضيحا يبين به المراد بالفقيه أبي محمد المذكور في كلام ابن تيمية؛ فقال: «يقول شيخ الإسلام: "وكذلك رأيت في فتاوي الفقيه أبي محمد هو والد إمام الحرمين أبي المعالي الجويني (وهو أشعري) رجع آخر عمره إلى عقيدة السلف فتوى طويلة"». منهج الأشاعرة في العقيدة: تعقيب على مقالات الصابوني، ط. الدار السلفية، الكويت، الطبعة.1، (1407هـ/1986م)، ص: 9. والجملة التي أدرجها الحوالي –وإن أخطأ فيها في تعيين المراد بأبي محمد في كلام ابن تيمية- إلا أن الشاهد فيها هو زعمه رجوع أبي محمد الجويني عن مذهبه العقدي.
وذكر مستنده في زعم توبة أبي محمد في هامش الصفحة الموالية؛ فقال: «أبو محمد الجويني والد أبي المعالي (توفي 440) وقد رجع آخر عمره إلى عقيدة السلف، وشهد له بذلك شيخ الإسلام في مواضع، وكتب في توبته النصحية المطبوعة مع المجموعة المنيرية». نفسه، ص: 10، هامش رقم (2).
وقال محمد الجامي: «الإمام الجويني (الأب)...، والد إمام الحرمين...، وقد كان إماما في التفسير والفقه والأصول...، وأما الذي يُهِمنا هنا فرسالته اللطيفة... (رسالة في إثبات الاستواء والفوقية ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد، وتنزيه البارئ عن الحصر والتمثيل والكيفية)...، والرسالة المذكورة تعالج صفة الفوقية والاستواء وصفة الكلام...، وقد وصف المؤلف الحيرة التي استولت عليه عندما ظهر له الحق في هاتين الصفتين، وغيرهما من الصفات الخبرية...، كما سنرى عندما ننقل منها بعض النقول؛ لنستشهد بها على ما نقول حول عقيدته، وموقفه من علم الكلام بعد رجوعه.
وميزة هذا الإمام أنه لم يمنعه التعصب والتقليد من اتباع الحق لما تبين له الحق، بل اتبعه وأعلن به ودعا إليه...». الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه، ط. المجلس العلمي التابع للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة.1، (1408هـ)، ص: 158.
وقد أسند دعوى رجوع أبي محمد عن أشعريته بما ورد في رسالة (إثبات الاستواء والفوقية ومسألة الحرف والصوت..)؛ التي ظنها من تأليفه، ووصف فيها مؤلفها (الحيرة التي استولت عليه عندما ظهر له الحق في هاتين الصفتين، وغيرهما من الصفات الخبرية).
وقال ناصر بن عبد الكريم العقل: «العقيدة الإسلامية الصافية لاضطراب فيها ولا التباس، وذلك لاعتمادها على الوحي، وقوة صلة أتباعها بالله...، وسلامتهم من الحيرة في الدين، ومن القلق والشك والشبهات، بخلاف أهل البدع...
أصدق مثال على ذلك ما حصل لكثير من أئمة علم الكلام والفلسفة والتصوف، من اضطراب وتقلب وندم، بسبب ما حصل بينهم من مجانبة عقيدة السلف، ورجوع كثير منهم إلى التسليم، وتقرير ما يعتقده السلف...
كما حصل للإمام أبي الحسن الأشعري، حيث رجع إلى عقيدة أهل السنة والجماعة في (الإبانة) بعد الاعتزال ثم التلفيق...، ومثله أبو محمد الجويني، (ت 438)، والد إمام الحرمين، في (رسالة في إثبات الاستواء والفوقية)». مباحث في العقيدة، دار الوطن، الرياض، الطبعة.1، (1412هـ)، ص: 26.
هل رجع أبو محمد الجويني عن العقيدة الأشعرية؟
دعوى "السلفيين" حيرة أبي محمد الجويني وتوبته ورجوعه عن عقيدته الأشعرية إلى ما يعتبرونه عقيدة السلف من المواطن التي تهافتوا فيها، واشتد فيها تخليطهم، وتشبثوا فيها بمستند هو أوهى من بيت العنكبوت.
ومستندهم في هذه الدعوى: هو نسبة رسالة في الصفات الإلهية إليه، ألفها شيخ صوفي بعد أن صاحب ابن تيمية وتأثر به؛ يثبت فيها بعض الصفات على الطريقة الحنبلية في الإثبات، وكتبها ـ كما يقول في مقدمتها ـ نصيحة لإخوانه ممن صفت لهم محبته، ووجب لهم نصحه؛ وهي (رسالة في إثبات الاستواء والفوقية والحرف والصوت).
فقد توهم "السلفيون" أن هذه الرسالة من تأليف أبي محمد الجويني، وبنوا على هذا الوهم النتيجة التي يهوون؛ وهي أن الشيخ الجويني قد استولت عليه الحيرة برهة قبل أن يتوب ويهتدي إلى "الحق"، وهو مذهب الحنابلة حصرا في اعتقادهم، وأنه اعترف بخطأ ما كان عليه هو وأصحابه من العقائد قبل توبته.
وكان يلزمهم أن يثبتوا العرش قبل أن يأخذوا في نقشه؛ فإن الرسالة المذكورة لا يصح نسبتها بحال إلى أبي محمد الجويني، وإنما الصواب الذي قاد إليه البحث والتحقيق أنها من تأليف الشيخ عماد الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي المعروف بابن شيخ الحزاميين (ت. 711هـ).
وقد نُشرت هذه الرسالة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية؛ منسوبة لأبي محمد الجويني، من غير ذكر من حققها، وهي الرسالة الثامنة، وتقع في المجلد الأول، بدءا من الصفحة: 174، ثم نشرتها دار طويق بالرياض مفردة؛ بتحقيق: أحمد معاذ بن علوان حقي،
وقد اعتمد في التحقيق ـ على ما ذكر ـ على نسخة مخطوطة واحدة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود، وهي مصورة من نسخة بـ (ليدن) في هولاندا، مع النسخة المطبوعة ضمن المجموعة المنيرية، ونسخة المنيرية مطبوعة على نسخة خطية واحدة وجدت في رواق أهل الشام في القاهرة، ولم يتعرض المحقق لمسألة تحقيق نسبة الرسالة إلى من ظن أنه مؤلفها، مع أن ذلك من أهم ما ينبغي أن ينصرف له اهتمام المحقق؛ فإن التحقيق لا قيمة له إذا لم يقدم المحقق بين يديه دلائل تفيد القطع بنسبة الكتاب موضوع التحقيق إلى من نسب إليه، لكثرة ما يقع من نحل الكتب وانتحالها بالعمد والخطأ.
ولعل ما حدا بإدارة المطبعة المنيرية وكذا بأحمد معاذ حقي وغيره إلى نسبة هذا الكتاب إلى أبي محمد الجويني، هو ما كُتب غلطا على طرة بعض نسخها المخطوطة من نسبتها إليه، ولعل الغلط في ذلك ناشئ عن كون الرسالة في نسختها الأصلية التي انتسخت منها النسخ الموجودة نسبت إلى مؤلفها عماد الدين الواسطي بعبارة: (لابن شيخ الحزاميين)، فصحفها ناسخ وجعلها: (لأبي شيخ الحرمين) لتقارب العبارتين، فظنها من نسخ النسخ الموجودة لوالد إمام الحرمين.
ومما يؤيد هذا الفرض أن جمال الدين القاسمي نقل جزءا من هذه الرسالة وسمى مؤلفها (ابن شيخ الحرمين)؛ فقال: «وقال الإمام الواسطي ابن شيخ الحرمين الشافعيّ في (عقيدته): إنني كنت برهة من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل: مسألة الصفات، ومسألة الفوقية، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد، وكنت متحيراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك...». محاسن التأويل، تحقيق: محمد باسل عيون السود، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة.1، (1418هـ): 3/467. ونقل نحوا من صفحتين من أول الرسالة.
وهذا واضح في أن القاسمي نقل عن نسخة صُحّف فيها اسم المؤلف من (ابن شيخ الحزاميين) إلى (ابن شيخ الحرمين)؛ مما سهل تحريف الاسم إلى: (أبي شيخ الحرمين)، ثم إلى: (والد إمام الحرمين)، وهو أبو محمد الجويني
والرسالة ليست من تأليف الشيخ أبي محمد الجويني بحال؛ والأدلة على بطلان نسبتها إليه كثيرة؛ أقواها: أن مؤلفها ينقل عن عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي المتوفى سنة (600هـ)، وأبو محمد الجويني توفي سنة (438هـ)؛ أي قبل ولادة الحافظ عبد الغني بأكثر من قرن من الزمن؛ فقد ورد في اللوحة السادسة من نسخة القاهرة: «قال الإمام الحافظ عبد الغني في عقيدته لما ذكر حديث الأوعال؛ قال: (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال: حديث الروح رواه أحمد والدارقطني)».
وبالرجوع إلى عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي المطبوعة نجد أنه ذكر حديث الأوعال، وعزاه إلى أبي داود والترمذي وابن ماجه، كما نقل عنه مؤلف رسالة إثبات الاستواء والفوقية، وذكر بعدُ حديثَ أبي هريرة في عروج روح المؤمن بعد الموت إلى السماء، وهو المعروف بحديث الروح، ثم عزاه كما قال صاحب الرسالة إلى أحمد والدارقطني.
ففي (ص: 41-42) من كتاب عقيدة الحافظ تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (ت600هـ)، ط. الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، بتحقيق عبد الله بن محمد البصيري: «روى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن النبي ع ذكر سبع سماوات وما بينهن، ثم قال: (وَفَوْقَ ذَلِكَ بَحْرٌ بَيْنَ أَعْلاَهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ بَيْنَ أَظْلاَفِهِمْ وَرُكَبِهِمْ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ ثُمَّ فَوْقَ ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ بَيْنَ أَعْلاَهُ وَأَسْفَلِهِ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ وَاللَّهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه القزويني».
وفي (ص: 45) منه: «وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله ع ذكر المؤمن عند موته، وأنه يعرج بروحه حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل). رواه الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما».
ثم إن النصوص الحديثية التي استدل بها صاحب رسالة الاستواء والفوقية نجدها هي نفسها وعلى ذات النسق في عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي مما يدل على اعتماده عليه ونقله عنه.
ونقْلُ مؤلف الرسالة عن الحافظ عبد الغني المقدسي دليل كاف في الجزم ببطلان نسبتها إلى أبي محمد الجويني، لهذا اضطر أحمد معاذ حقي في تحقيقه للرسالة إلى أن يعرف بالحافظ عبد الغني الذي نقل عنه المؤلف بأنه: الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري (ت 409)، وهو وهْمٌ بين، ويدل على وهم المحقق في ذلك: مطابقة ما نقله صاحب الرسالة لما في عقيدة عبد الغني المقدسي، واعتماده عليه في إيراد الأحاديث التي استدل بها على الفوقية، كما تقدم، أضف إلى ذلك أن المشهور من الحافظَينِ بأن له تأليفا في العقيدة هو الحافظ المقدسي، أما الحافظ الأزدي فلا تذكر له كتب التراجم كتابا في العقيدة، وكان على المحقق أن يبين المقصود بعقيدة الحافظ عبد الغني التي نقل عنها المؤلف، وأنى له ذلك، وقد جعله الحافظَ الأزدي، وليس للأزدي تأليفا يعرض فيه عقيدته.
على أن الذين ترجموا لأبي محمد الجويني لم يذكر أحد منهم هذه الرسالة ضمن تآليفه، ولم يذكروا من أمره أنه حار ورجع عما كان يعتقده، وهو أمر بالغ الحساسية من إمام مثله، فلو حصل لتناقلوه واشتهر؛ لجلالة قدر أبي محمد الجويني.
هذا وقد طبعت هذه الرسالة بحروفها منسوبة إلى مؤلفها الحقيقي (عماد الدين الواسطي ابن شيخ الحزاميين)؛ مرة باسم (النصيحة في صفات الرب جل وعلا)، طبع المكتب الإسلامي، بتحقيق زهير الشاويش، وتارة باسم: (رسالة في إثبات الاستواء والفوقية وتنزيه الباري عن الحصر والتمثيل والكيفية)، طبع مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة، بتحقيق: عدنان بن حمود أبو زيد.
كما نسب الرسالة إلى عماد الدين الواسطي ابن شيخ الحزاميين غير واحد، وممن نسبها إليه:
ـ محمود شكري الألوسي في كتاب: (غاية الأماني)؛ حيث قال: «قال الإمام أبو العباس أحمد عماد الدين الواسطي... في رسالته (نصيحة الإخوان) ما حاصله: (إن الله عز وجل كان ولا مكان، ولا عرش ولا ماء، ولا فضاء ولا هواء...) ». غاية الأماني في الرد على النبهاني، طبع على نفقة عبد العزيز ومحمد العبد الله الجميح، الطبعة.2، عام (1391هـ): 1/496. فنقل نحو صفحتين مما هو بحروفه في الرسالة موضوع البحث.
ـ أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي؛ إذ قال: «قال الشيخ عماد الدين الواسطي: نزوله ثابت معلوم غير مكيف بحركة وانتقال يليق بالمخلوق، بل نزول كما يليق بعظمته وجلاله، فصفاته تعالى معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، فيكون المؤمن مبصرا بها من وجه، أعمى من وجه، مبصرا من حيث الإثبات والوجود، أعمى من حيث التكييف والتحديد». لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، ط. مؤسسة الخافقين ومكتبتها، دمشق، الطبعة.2، (1402هـ/1982م): 1/250. وهذا المنقول موجود بلفظه في الرسالة المبحوث نسبتها إلى الجويني.
ـ جمال الدين القاسمي في محاسن التأويل؛ وقد تقدم بيان نقله عنه.
وهكذا تظافرت الأدلة والقرائن على أن الرسالة المذكورة ليست من تأليف الجويني، وأنها على التحقيق من تأليف عماد الدين الواسطي.
وإذا بطل نسبة رسالة الاستواء والفوقية إلى أبي محمد الجويني بطل ما بناه "السلفيون" على هذه النسبة من أن الإمام الجويني اعترته حيرة برهة من حياته، ثم تاب من عقيدته الأشعرية ورجع إلى ما يعدونه عقيدة أهل السنة والجماعة.
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا