القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المنشورات

التحول الفكري في حياة أبي الحسن الأشعري (The intellectual transformation in the life of Abu al-Hasan al-Ash'ari)

 


أبو الحسن الأشعري

التحول الفكري في حياة أبي الحسن الأشعري

هل وقع مرة واحدة أو مرتين؟

(The intellectual transformation in the life of Abu al-Hasan al-Ash'ari)

بقلم: د. الحسين بودميع

 

يعز أن تجد في كتب "السلفيين" الحنابلة التي انبرت للطعن في العقيدة الأشعرية كتابا لم يُثِر فيه مؤلفه دعوى ندم رؤوس الأشاعرة في آخر حياتهم، ورجوعهم عما كانوا عليه من العقائد إلى مذهب ابن تيمية وأتباعه؛ الذي يعتقدون أنه هو مذهب أهل السنة والجماعة، أو مذهب السلف.

وهم إنما يصرون على إثارة هذه الدعوى وترديدها لإقناع من يتلقى عنهم بزعم انحراف مذهب الأشاعرة ومخالفته لما كان عليه السلف؛ ذلك أن توبة التائب عما كان ينتحله ويناصره من العقائد إعلان صريح بأنه كان منحرفا عن منهج أهل الحق؛ ذلك أن العالم لا يتوب عما يراه حقا.

وقد ادعوا ندم ورجوع كل من إمام المذهب أبي الحسن الأشعري، وأبي محمد الجويني، وولده إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، وأبي الفتح الشهرستاني، وفخر الدين الرازي.

وسنبحث في هذه المقالة دعوى رجوع أبي الحسن الأشعري إمام المذهب عن مذهبه الاعتقادي الذي انتحله بعد مفارقة مذهب الاعتزال، على أن نتحدث عن دعوى توبة باقي الأئمة في قابل الدراسات بحول الله.

يقول الشيخ محمد الجامي([1]) في كتابه الصفات الإلهية: «لنثبتْ هنا طائفةً من كلام بعض أهل العلم من أولئك الذين أكرمهم الله بالتوبة عن علم الكلام في آخر أعمارهم، فتحدثوا عن مذهب السلف وأثنوا عليه بما هو أهله، وفي مقدمتهم ذلكم:

الإمام المقدم أبو الحسن الأشعري...، وقد نقل غير واحد من أهل العلم بالتاريخ وعلم الرجال، رجوع أبي الحسن الأشعري عن الاشتغال بعلم الكلام، إلى الانتصار لمذهب السلف والدفاع عنه»([2]).

وهذا أنموذج من كلام السلفيين عن "توبة" أبي الحسن التي يزعمونها، وقد اكتفى صاحبه في تقرير دعوى توبته عن الاشتغال بعلم الكلام بادعاء أن غير واحد من أهل العلم بالتاريخ وعلم الرجال نقل رجوعه عن الاشتغال بعلم الكلام، إلى الانتصار لمذهب السلف والدفاع عنه، ولم ينقل كلام أي واحد  من أهل العلم بالتاريخ وعلم الرجال في ذلك، وادعى في هامش من هوامش الكتاب أن أبا الحسن اتصل أولا «بابن كُلاَّب الذي أخذ عنه هذه العقيدة المعروفة اليوم بالعقيدة الأشعرية، وهي في الواقع عقيدة كُلابية، ثم أعلن أبو الحسن رجوعه عن الكُلابية إلى مذهب السلف، والانتصار له والدفاع عنه»([3]).

وغرض الجامي من إثارة هذه الدعوى أن يثبت لمن يقرأ له «أن العقيدة الأشعرية المعروفة اليوم عند الناس هي التي رجع عنها الإمام أبو الحسن الأشعري، ومن ذكروا بعده من كبار الشيوخ، فإذاً نسبة هذه العقيدة إلى أبي الحسن الأشعري نسبة غير صحيحة، لأنه لا يمثلها بعد أن رجع عنها قطعاً»([4]).

وهذا الهدف من دعوى توبة أئمة الأشاعرة ـ وهو الترويج لزعم انحراف العقيدة الأشعرية عن منهج السلف ـ لا يفتأ أتباع هذه المدرسة يعلنونه ويكررونه؛ كما في هذا الأنموذج:

قال صاحب الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام بعد أن عرض ما يذكره ابن تيمية من أخبار ندم الأشاعرة: «فهذه -وغيرها- اعترافات رؤوس الخلَفيّة وأئمة المتكلمين؛ قد اعترفوا ببطلان ما هم عليه، وبحيرتهم وشكهم وصواب ما عليه السلف، وهذا أوضح دليل على بطلان ما هم عليه من الاعتقادات، والله المستعان»([5]).

هل تاب أبو الحسن الأشعري مرتين؟

إن من رضي من مسالك تحصيل المعارف بمسلك التقليد، وقعد به العجز عن البحث والتتبع والتحقيق، وسلَّم - بحسن ظنه - لمن يقلدهم من الشيوخ دعاويَهم، ولو مجردة عما يعضدها من قويم الدلائل، خليق بأن تروج عليه دعوى أن أئمة الأشاعرة وعلى رأسهم إمام المذهب أبو الحسن ندموا على ما كانوا ينتحلونه من العقائد، ورجعوا في آخر حياتهم إلى ما يعتبره "السلفيون" الحنابلة عقيدة أهل السنة أو منهج السلف.

ولكن طالب العلم الذي يتلقى ما يسمعه أو يقرؤه تلقيا نقديا، ويواجه كل ذي دعوى بالقانون النقدي القرآني: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، ويجعل من قواعده في الفكر والممارسة: (إن كنت ناقلا فالصحة وإن كنت مدعيا فالدليل)، ومن قناعاته: أن (القول بدليله لا بقائله)، وأن (كل واحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم)، من كانت هذه حاله سيدرك بيسير من البحث والتحقيق أن هذه الدعوى عارية عن الصحة، ولا تقوم على أساس معتبر، وسيعلم أن أبا الحسن الأشعري ثبت على ذات العقيدة التي كان عليها من أول يوم فارق فيه مذهب الاعتزال إلى أن مات، ولا يُعلم أنه تاب عن عقيدة كان عليها سوى مرة واحدة؛ وزعْمُ "السلفيين" أنه انتقل من الاعتزال إلى طريقة ابن كلاب، ثم فارق مذهب ابن كلاب إلى ما يعدونه مذهب السلف مردود من عدة أوجه؛ أظهرها: 

الوجه الأول: 

 أن المصادر التي ترجمت لأبي الحسن، ورصدت تحوله الفكري؛ من كتب التاريخ والرجال والطبقات إنما تذكر توبته من الاعتزال ورجوعه إلى السنة، وأنه أعلن ذلك في مسجده بالبصرة من فوق المنبر على رؤوس الأشهاد، وأعلن أنه سيشتغل بالرد على المعتزلة ونصرة عقائد السنة، أما حدوث توبة أخرى في حياته، وانتقاله إلى عقيدة أخرى غير العقيدة التي رجع إليها من الاعتزال فلا تذكر المصادر شيئا من ذلك.

ولو طرأ له تحول آخر وانتقال من مذهب ابن كلاب إلى مذهب آخر لأعلنه، ولتناقله الناس؛ لأن مثل ذلك مما تتوافر الدواعي على نقله.

وأيضا لو ظهر له غلطُ ما كان عليه ابن كلاب، ورجع عن مذهبه لألف في الرد عليه كما ألف في الرد على المعتزلة بعد أن فارق مذهبهم، وما ذكر أحد من العلماء أن له كتابا في الرد على ابن كلاب ومن على طريقته.

 وأيضا لو تاب من انتحال ما كان ينتحله ابن كلاب للزم أن يتبعه تلامذته في هذه التوبة؛ إذ لا يُعقَل ولا يُقبَل أن يتوب من عقيدة ثم يظل تلامذته متمسكين بها، ويصرون في الوقت ذاته على الانتساب إليه؛ فهذا مما لا يعقل.

والشيوخ والباحثون "السلفيون" الذين يقولون  إن أبا الحسن الأشعري اتصل أولا «بابن كُلاَّب الذي أخذ عنه هذه العقيدة المعروفة اليوم بالعقيدة الأشعرية، وهي في الواقع عقيدة كُلابية، ثم أعلن أبو الحسن رجوعه عن الكُلابية إلى مذهب السلف»([6])؛ مطالبون بالكشف عن المصادر التي تذكر ذلك؛ لأن الحقائق العلمية لا يكتفى فيها بالادعاء المجرد، وإلا لقال من شاء ما شاء.

هذا وإن من الباحثين "السلفيين" من قاده بحثه إلى ترجيح كون ابن تيمية ممن ينفي ترك أبي الحسن لطريقة عبد الله بن سعيد بن كلاب؛ فقال: «إن ابن تيمية... قد اطلع على ما وصل اليه من كتب الأشعري؛ ومنها: المقالات، والإبانة، واللمع، ورسالته إلى أهل الثغر، ولم يذكر في موضع أن الأشعري ترك طريقة ابن كلاب»([7]).

الوجه الثاني: 

 أن كتابه الإبانة الذي يقول "السلفيون" إنه آخر مؤلفات أبي الحسن، وهو المعبر عن المرحلة الأخيرة التي يقولون إنه انتقل إليها من طور اتباع مقالات ابن كُلاب، إنما سار فيه أبو الحسن على طريقة ابن كلاب؛ كما قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان: «عبد الله بن سعيد بن محمد بن كلاب القطان البصري...، ذكره بن النجار فنقل عن محمد بن إسحاق النديم في الفهرست فقال: كان من بابة الحشوية...، وقول ابن النديم: إنه من الحشوية يريد من يكون على طريق السلف في ترك التأويل للآيات والأحاديث المتعلقة بالصفات، ويقال لهم المفوضة، وعلى طريقته مشى الأشعري في كتاب الإبانة»([8])

 

الوجه الثالث: 

أن طريقة ابن كلاب هي معتمد الإمام البخاري في مسائل التوحيد من صحيحه؛ كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح؛ إذ قال: «مع أن البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم، وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة له من الشافعي وأبي عبيدة وأمثالهما، وأما المسائل الكلامية فأكثرها من الكرابيسي وابن كلاب ونحوهما»([9]).

والإمام البخاري يقر "السلفيون" الحنابلة أنه على عقيدة السلف، فإذا كان البخاري ـ وهو من أئمة السلف ـ يسير على طريقة ابن كلاب، لزم أن يكون ابن كلاب من أئمة السلف.

ومما يؤكد سنية وسلفية ابن كلاب ـ غير استمداد البخاري منه ـ : تصريح من ترجم له بأنه على طريقة السلف أو من أهل السنة أو تبرئته من التلبس بالبدع:

1- فممن صرح بأنه على طريقة السلف الحافظ ابن حجر في لسان الميزان؛ إذ قال في توجيه وصف ابن النديم له بأنه حشوي: «وقول ابن النديم: إنه من الحشوية يريد من يكون على طريق السلف في ترك التأويل للآيات والأحاديث المتعلقة بالصفات، ويقال لهم المفوضة»([10]).

2- وممن نسبه إلى أهل السنة القاضي شهبة في طبقات الشافعية؛ قال رحمه الله: «عبد الله بن سعيد أبو محمد المعروف بابن كُلاب بضم الكاف وتشديد اللام، كان من كبار المتكلمين، ومن أهل السنة، وبطريقته وطريقة الحارث المحاسبي اقتدى أبو الحسن الأشعري»([11]).

3- وممن شهد له بالبراءة من التلبس بشيء من البدع الإمام ابن أبي زيد القيرواني في رسالة جوابية كتب بها إلى معتزلي ببغداد، على ما ذكر الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري؛ قال: «وقد قرأت بخط علي بن بقاء الوراق؛ المحدث المصري رسالةً كتب بها أبو محمد عبد الله بنُ أبي زيد القيرواني الفقيه المالكي ـ وكان مقدم أصحاب مالك رحمه الله بالمغرب في زمانه ـ إلى علي بن أحمد بن إسماعيل البغدادي المعتزلي؛ جوابا عن رسالة كتب بها إلى المالكين من أهل القيروان؛ يُظهر نصيحتهم بما يُدخلهم به في أقاويل أهل الاعتزال، فذكر الرسالة بطولها في جزء ـ وهي معروفة ـ فمن جملة جواب ابن أبي زيد له أن قال: ونَسبْتَ ابن كلاب إلى البدعة ثم لم تحك عنه قولا يُعرَفُ أنه بدعة، فيوسم بهذا الإسم، وما علمنا مَنْ نسب إلى ابن كلاب البدعةَ، والذي بلغنا: أنه يتقلد السنة، ويتولى الرد على الجهمية وغيرهم من أهل البدع»([12]).

وإذا تحقق أن ابن كلاب على طريقة السلف، وأن من لا خلاف في أنه من أئمة السلف -كالبخاري- يستمد منه مسائل العقيدة فسيكون من قال: إن الأشعري رجع عن عقيدة ابن كلاب إلى عقيدة السلف؛ كمن قال: إنه رجع عن عقيدة السلف إلى عقيدة السلف، وذلك مما لا يعقل.



[1]  هو الشيخ الإثيوبي محمد أمان بن علي الجامي الذي تنسب إليه "السلفية" الجامية؛ التي يقال لها أيضا "السلفية" المدخلية؛ نسبة لسميه ربيع بن هادي المدخلي، وقد كان الجامي يشغل قيد حياته رئيس شعبة العقيدة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

[2]  الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه، ط. المجلس العلمي التابع للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة.1، (1408هـ)، ص: 157.

[3]  نفسه، ص: 157، هامش، رقم 2.

[4]  نفسه.

[5]  ناصر الفهد، "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام"، ط. مكتبة الرشد، الرياض، (1415هـ)، ص: 81.

[6]  الجامي، "الصفات الإلهية"، ص: 157، هامش، رقم 2.

[7]  عبد الرحمن المحمود "موقف ابن تيمية من الأشاعرة"، ط. مكتبة الرشد، الرياض، (1415هـ): 1/397.

[8]  لسان الميزان، تحقيق: دائرة المعرف النظامية – الهند، ط. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة.3، (1406/1986): 3/290.

[9]  نفسه: 3/290.

[10]  نفسه: 3/290.

[11]  أبو بكر بن قاضي شهبة، "طبقات الشافعية+، تحقيق: د. الحافظ عبد العليم خان، ط. عالم الكتب، بيروت، الطبعة.1، (1407هـ): 1/78.

[12]  تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة.3، (1404)، ص: 405-406.

 

تعليقات

التنقل السريع