تفويض "السلفيين" وتفويض السلف
(Tafwid between the "Salafis" and the Salaf)
بقلم د. الحسين بودميع
المحور الأول: في تعريف التفويض
التفويض في اللسان العربي: التوكيل، وإرجاع الشيء إلى الغير وتحكيمه فيه، وتفويض الأمر إلى الله: ردُّه إليه والتبرؤ من الحول والقوة عليه؛ جاء في اللسان لابن منظور، مادة (فوض): "فَوَّضَ إِليه الأَمرَ: صَيَّرَه إِليه وجعَلَه الحاكم فيه، وفي حديث الدعاء: (فَوَّضْتُ أَمْري إِليك)؛ أَي رَدَدْتُه إِليك؛ يقال: فَوَّضَ أَمرَه إِليه: إِذا ردّه إِليه وجعله الحاكم فيه".
وتفويض النص عند علماء أصول الدين: الإمساك عن الخوض في تفسيره ورد العلم بمعناه إلى الله تعالى.
ويرد بيان معنى التفويض عند علماء الأشاعرة في معرض تقرير مذهب السلف في متشابه النصوص؛ حيث يقررون أن مذهب السلف في هذه النصوص قائم على أركان ثلاثة:
1- أن النصوص المتشابهات يجب الإيمان بأنها وحي من الله إلى رسوله كالنصوص المحكمات؛ كما قال تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا)؛ أي كل من المحكم والمتشابه وحي من عند ربنا.
2- أن ظاهرها الموهم لمشابهة الله خلقه غير مراد؛ إرجاعاً لها إلى المحكم من قوله تعالى: (ليس كمثله شيء).
3- إرجاع المعنى المراد منها إلى الله تعالى، والإمساك عن الخوض فيه والبحثِ عن تفسيره؛ وقوفا عند قوله تعالى: (وما يعلم تاويله إلا الله)؛ على قراءة الوقف على لفظ الجلالة، مع حمل لفظ (التأويل) فيه على أن المقصود به المعنى المراد.
وتظهر أركان التفويض الثلاثة هذه في تقرير اللقاني لطريقة السلف في شرح الجوهرة؛ إذ قال بعد عرض جملة من النصوص الموهم ظاهرها للتشبيه: "فعلى طريق السلف يجب أن يعتقد أن هذه النصوص من عند الله تعالى، وأن هذا الظاهر المدلول لها محال على الله تعالى، وأن المعنى المقصود منها لم يعلمه إلا الله تعالى"([1]).
وقال فخر الدين الرازي في أساس التقديس: "الفصل الرابع في تقرير مذهب السلف، حاصل هذا المذهب: أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظاهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها"([2]).
وجريا على هذا الفهم لمذهب السلف صاغ الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد تعريف التفويض؛ فقال: "والمراد من التفويض: صرف اللفظ عن ظاهره، مع عدم التعرض لبيان المعنى المراد منه، بل يترك ويفوض علمه إلى الله تعالى"([3]).
ومع أن التفويض على هذا المعنى ليس مما اختص به الأشاعرة، ولكن لما كان أحدَ خيارين عندهم في التعامل مع النصوص الموهمة للتشبيه، جعله الباحثون "السلفيون" مطعنا من مطاعنهم في المذهب الأشعري؛ فاعتقاد "كون نصوص الصفات من المتشابه الحقيقي الذي لا يفهم منه شيء، ولا يعقل له معنى، وأن الصحابة والسلف كانوا لا يخوضون في معانيها، وهم جاهلون بهذه المعاني هي عقيدة المفوّضة، وهي عقيدة الأشاعرة إذا أحالوا لمذهب السلف"([4]).
وقد عد "السلفيون" مسلك التفويض وجها من أوجه "تعطيل الصفات" عند الأشاعرة، ونفوا أن يكون تفويض السلف تفويضا لمعاني نصوص الصفات المتشابهة؛ وجعلوا التفويض على قسمين:
1ـ التفويض المعنوي، وهو تفويض معنى النص إلى الله عز وجل، والتبرؤ من القدرة على درك مراد الشارع منه، مع اعتقاد أن ظاهره غير مراد؛ وهذا عندهم "من أفسد المذاهب وأبعدها عن مذهب السلف، إذ فيه تجهيل لخير الأمة وأنهم كانوا يقرأون ما لا يفهمون معناه، بل إن فيه رميا للرسول صلى الله عليه وسلم بالجهل في أعظم أصول الدين؛ وهو معرفة الله سبحانه، وما يستحقه من أوصاف الكمال"([5]).
2ـ التفويض الكيفي؛ و"هو الإيمان بمعاني الصفات، وتفويض كيفياتها وحقائقها إلى الله تعالى+([6]). فالمعاني الحقيقية للصفات معلومة، ولكن كيفياتها مجهولة؛ فلهذا يجب الإقرار بمعانيها الظاهرة، وتفويض كيفياتها إلى الله تعالى وهذا النوع من التفويض الذي يسمونه كيفيا هو مذهب السلف عندهم، فلا يجوز عزو تفويض المعنى إليهم؛ "فمن ادعى أن الصحابة لا يعرفون معاني صفات الله ونعوته، ونسب إليهم الجهل بها وترْكَ البحث عن معانيها، فقد أعظم عليهم الفرية"([7])؛ فتفويض السلف في اعتقادعم كيفي لا معنوي.
المحور الثاني: التفويض بين "السلفيين" والسلف
إذا كان تأويل النص المتشابه الذي ظاهره نسبة ما لا يليق إلى الحق سبحانه ضرورة يقتضيها التنزيه؛ فإن التفويض هو الأصل المرجوع إليه، وهو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم، ولكن ما صورة التفويض الذي التزمه السلف؟ وهل التفويض الذي جرى عليه ابن تيمية ومن تبعه من متأخري الحنابلة و"السلفيين" المعاصرين هو التفويض الثابت مذهبا للسلف الصالح نفسه؟
هذه المسألة بحثها وأفاض في دراستها بعض الباحثين المعاصرين من الأشاعرة ومن غيرهم، وأكثر من حررها وحقق فيها القول ـ فيما وقفت عليه ـ الباحث اليمني الدكتور سيف بن علي العصري في كتاب (القول التمام بإثبات التفويض مذهبا للسلف الكرام)؛ وهو دراسة موسعة موعبة، جمع فيها من النقول عن أئمة السلف وعلماء الخلف ما يفيد القطع بأن مذهب السلف في هذا الباب مباين تماما لما ذهب إليه ابن تيمية ومن قلده من متأخري الحنابلة الذين قسموا التفويض إلى كيفي معنوي؛ ونسبوا أولهما إلى السلف، وبرؤوهم من الثاني.
وأقوى ما استند إليه الباحث المذكور في بيان أن تفويض معاني النصوص المتشابهة إلى الله تعالى والإمساك عن تفسيرها هو مذهب السلف أمران:
الدليل الأول: استفاضة النقل عن أئمة السلف في الإمساك عن تفسير متشابه النصوص، والنهي عنه، والأمر بإمرارها كما جاءت بلا كيف ولا معنى، وتأكيد أن تفسيرَها قراءتُها؛ ومن أصرح أقوال السلف في ذلك:
1- ما رواه الذهبي في كتاب العلو بسنده عن عباس الدوري، سمعت يحيى بن معين يقول: شهدت زكرياء بن عدي سأل وكيعا؛ فقال: "يا أبا سفيان هذه الأحاديث؛ مثل حديث الكرسي موضع القدمين، ونحو هذا؛ فقال: كان إسماعيل بن أبي خالد والثوري ومسعر يروون هذه الأحاديث، لا يفسرون منها شيئا"([8]).
2- ذكر الذهبي نقلا عن ابن عدي عن حبيب بن أبي حبيب، حدثني مالك، قال: "يتنزل ربنا -تبارك وتعالى- أمره، فأما هو، فدائم لا يزول...، قلت [أي الذهبي]: لا أعرف صالحا، وحبيب مشهور، والمحفوظ عن مالك -رحمه الله- رواية الوليد بن مسلم، أنه سأله عن أحاديث الصفات، فقال: أمرها كما جاءت، بلا تفسير"([9]).
3- أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن أحمد بن أبي الحواري، قال: سمعت سفيان بن عيينة، يقول: "كل ما وصف الله تعالى من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته، والسكوت عليه"([10]). وإسناده صحيح؛ كما قال الحافظ ابن حجر: " وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري، عن سفيان بن عيينة؛ قال:...[فذكره]" ([11]).
4- وأسند عنه من طريق إسحاق بن موسى الأنصاري قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: "ما وصف الله تبارك وتعالى به نفسه في كتابه فقراءته تفسيره، ليس لأحد أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية" ([12]).
5- قال أبو القاسم اللالكائي: "أخبرنا أحمد بن محمد بن الجراح ومحمد بن مخلد؛ قالا: ثنا عباس بن محمد الدوري، قال: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام - وذكر عنده هذه الأحاديث: (ضحك ربنا عز و جل من قنوط عباده وقرب غيره)، و(الكرسي موضع القدمين)، و(أن جهنم لا تمتلىء فيضع ربك قدمه فيها)، وأشباه هذه الأحاديث -؛ فقال أبو عبيد: هذه الأحاديث عندنا حق، يرويها الثقات بعضهم عن بعض، إلا أنا إذا سئلنا عن تفسيرها، قلنا: ما أدركنا أحدا يفسر منها شيئا، ونحن لا نفسر منها شيئا، نصدق بها ونسكت"([13]).
6- قال موفق الدين ابن قدامة: "قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا)، و(وإن الله يرى في القيامة)، وما أشبه هذه الأحاديث: نؤمن بها ونصدق بها؛ لا كيف ولا معنى، ولا نرد شيئا منها"([14]).
7- قال أبو العباس أحمد بن عمر بن سُريج: "وقد صح عن جميع أهل الديانة والسنة إلى زماننا أن جميع الآي والأخبار الصادقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على المسلمين الإيمان بكل واحد منه كما ورد، وأن السؤال عن معانيها بدعة والجواب كفر وزندقة"([15]).
وممن صرح من المتأخرين بوجوب تفويض معاني النصوص المتشابهة: موفق الدين ابن قدامة، وشمس الدين الذهبي.
8- قال موفق الدين ابن قدامة: "وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل، والتشبيه والتمثيل، وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله"([16]).
9- ذكر الذهبي في السير عن ابن القاسم قال: "سألت مالكا عمن حدث بالحديث؛ الذين قالوا: (إن الله خلق آدم على صورته)، والحديث الذي جاء: (إن الله يكشف عن ساقه)، (وأنه يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد)؛ فأنكر مالك ذلك إنكارا شديدا، ونهى أن يحدث بها أحد...
قلت [القائل الذهبي]: أنكر الإمام ذلك، لأنه لم يثبت عنده، ولا اتصل به، فهو معذور، كما أن صاحبي (الصحيحين) معذوران في إخراج ذلك - أعني: الحديث الأول والثاني - لثبوت سندهما، وأما الحديث الثالث، فلا أعرفه بهذا اللفظ، فقولنا في ذلك وبابه: الإقرار، والإمرار، وتفويض معناه إلى قائله الصادق المعصوم"([17]).
فهؤلاء جمع من أئمة السلف وعلماء الخلف ومعهم عدد غيرهم يصرحون بالأمر بإمرار متشابه نصوص الصفات كما جاءت والنهي عن الخوض في تفسيرها، وتفويض معانيها إلى قائلها.
وهذه النصوص المذكورة من كلام هؤلاء الأئمة أقوى دليل على أن المذهب الشائع لدى السلف هو تفويض معاني آيات وأحاديث الصفات المتشابهة والإمساك عن تعيين المراد منها، لهذا يجد من يُبَدّعون مسلك التفويض صعوبة كبيرة في الانفصال عن مقتضى هذه النقول الصحيحة عن السلف؛ فلا يجدون ملجأ للتخلص منها إلا ركوب مسلك التأويل الذي يحرمونه ويضللون مخالفيهم بسببه؛ فيحملون نهي الأئمة عن تفسير النصوص المتشابهة على تفسيرها بتفسير الجهمية؛ فتراهم يؤولون قول أحمد فيما سبق: (لا كيف ولا معنى) بأن مراده: ولا معنى يخالف الظاهر؛ يقول ابن عثيمين: "وقوله: (ولا معنى)؛ أي: لا نثبت لها معنى يخالف ظاهرها؛ كما فعله أهل التأويل، وليس مراده نفي المعنى الصحيح الموافق لظاهرها"([18]) .
وقال: "فإن قيل: ما الجواب عما قاله الإمام أحمد في حديث النزول وشبهه: (نؤمن بها ونصدق، لا كيف، ولا معنى)؟
قلنا: الجواب على ذلك: أن المعنى الذي نفاه الإمام أحمد في كلامه هو المعنى الذي ابتكره المعطلة من الجهمية وغيرهم، وحرفوا به نصوص الكتاب والسنة عن ظاهرها إلى معانٍ تخالفه"([19]). وهذا تأويل متكلف لكلام الإمام أحمد وتقييد لما أطلقه من غير دليل؛ فإنه نهى عن مطلق الحمل؛ سواء حمْلُ النص على المعنى الظاهر منه أو على غير ظاهره، ولو أراد خصوص الحمل على غير الظاهر لصرح به؛ لأن المقام مقام بيان.
وبمثل هذا التأويل المتكلف أول الألباني قول وكيع فيما سبق: (لا يفسرون منها شيئا)؛ فقال: "والمراد بقوله: (لا يفسرون منها شيئا)؛ لا يتأولونها، ولا يخرجون معناها عن ظاهرها"([20]).
هذا وإن من كلام الأئمة في المسألة ما هو من قبيل النص الذي لا يحتمل التأويل بحال؛ كأمرهم بالاكتفاء بقراءة النص المتشابه والكف عن الخوض في تفسيره -بأي تفسير- والسكوت عليه؛ كما في قول ابن عيينة السابق: (فتفسيره تلاوته، والسكوت عليه)، وقول أبي عبيد القاسم بن سلام: (إذا سئلنا عن تفسيرها، قلنا: ما أدركنا أحدا يفسر منها شيئا، ونحن لا نفسر منها شيئا، نصدق بها ونسكت)؛ فإن المتكلم في تفسير النص ولو بحمله على معناه الظاهر غير ساكت، ولو تكلم السلف في معاني تلك النصوص لما صح نسبة السكوت عنها إليهم.
وكذلك قول ابن عيينة: (قراءته تفسيره، ليس لأحد أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية) واضح الدلالة في النهي عن مطلق التفسير.
وأصرح من ذلك قول ابن سُريج: (وأن السؤال عن معانيها بدعة، والجواب كفر وزندقة)؛ حيث بدع السائل عن معاني متشابه النصوص مطلقا من غير تمييز بين السؤال عن المعاني الظاهرة وغير الظاهرة، وحكم بالكفر والزندقة على من أجاب السائل عن معناها، ولو أجابه بالمعنى الظاهر.
الدليل الثاني على أن تفويض معاني النصوص المتشابهة إلى الله تعالى والإمساك عن تفسيرها هو مذهب السلف: أن علماء الخلف –ما عدا ابن تيمية ومن تبعه- قد اتفقت كلمتهم على تصوير مذهب السلف في هذا الباب بأنه تفويض لمعاني النصوص المتشابهة والسكوت عن الخوض في تفسيرها، ومن النقول التي ساقها الباحث المذكور في ذلك:
1- قول إمام الحرمين أبي المعالي الجويني: "وقد اختلفت مسالكُ العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق اعتقادُ فحواها، وإجراؤها على موجَب ما تبتدره أفهامُ أرباب اللسان منها، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم هذا المنهج في آي الكتاب وما يصح من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراءِ الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى"([21]).
2- قول موفق الدين بن قدامة: "ومذهب السلف رحمة الله عليهم الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تجاوز لها ولا تفسير ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها ولا تشبيه بصفات المخلوقين ولا سمات المحدثين بل أمروها كما جاءت وردوا علمها إلى قائلها ومعناها إلى المتكلم بها"([22]).
3- قول الإمام النووي: "اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين: أحدهما؛ وهو مذهب معظم السلف أو كلهم: أنه لا يتكلم في معناها، بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته، مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن التجسم، والانتقال، والتحيز في جهة، وعن سائر صفات المخلوق"([23]).
4- قول أبي الفرج ابن الجوزي: "أكثر السلف يمتنعون من تأويل مثل هذا [يعني: حديث (يضحك الله إلى رجلين)]، ويمرونه كما جاء، وينبغي أن يراعى في مثل هذا الإمرار اعتقاد أنه لا تشبه صفات الله صفات الخلق، ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد منه مع اعتقاد التنزيه"([24]).
5- قول الذهبي: "قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم، وما أبقوا ممكنا، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها أصلا، وهي أهم الدين، فلو كان تأويلها سائغا أو حتما، لبادروا إليه، فعلم قطعا أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق، لا تفسير لها غير ذلك، فنؤمن بذلك، ونسكت اقتداء بالسلف"([25]).
6- قول الحافظ جلال الدين السيوطي: "من المتشابه آيات الصفات...، وجمهور أهل السنة - منهم السلف وأهل الحديث - على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها"([26]).
فهؤلاء جمع من كبار علماء المسلمين يقررون أن مذهب السلف في متشابه نصوص الصفات هو تفويض معانيها إلى الله تعالى والكف عن تفسيرها، فهل أخطأ هؤلاء العلماء جميعا وغيرهم ممن لم نذكرهم في تصور وتصوير مذهب السلف في المسألة وأصابه ابن تيمية ومن تبعه؟ ما الذي يجعل ابن تيمية أولى بالإصابة في فهم مذهب السلف من هؤلاء؟ ألأنه أغزر علما منهم مجتمعين؟ أو أصدق دينا منهم؟ أم ماذا؟ لماذا لا يجرؤ السلفيون ولو مرة واحدة على نسبة الخطأ لابن تيمية؟ سيما في مثل هذه المسألة التي خالفه فيها كل العلماء حتى الحنابلة منهم، مع ما صح عن أئمة السلف من التصريح بالنهي تفسير متشابه آيات وأحاديث الصفات والأمر بإمرارها كما جاءت، مما يرجح فهم هؤلاء العلماء لحقيقة مذهب السلف.
المحور الثالث: مناقشة مستند "السلفيين" في إنكار مسلك التفويض
هذا وإن "السلفيين" في إنكار مسلك التفويض كما في غيره تبع لابن تيمية الذي عاب تفويض معاني متشابه النصوص إلى الله تعالى، وعده تجهيلا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة السلف، وأنكر أن يكون تفويض المعنى مسلكا للسلف، وقرر أن حقيقة مذهب السلف: هو إثبات ما دلت عليه ظواهر النصوص من الصفات مع تفويض العلم بكيفياتها إلى الله تعالى.
يقول ابن تيمية في كتاب درء التعارض "وأما التفويض؛ فإن من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه؛ فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟
وأيضا فالخطاب الذي أريد به هُدانا والبيانَ لنا وإخراجَنا من الظلمات إلي النور ـ إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك؛ فعلي التقديرين لم نخاطب بما بُيِّن فيه الحق، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر...
وحقيقة قول هؤلاء في المخاطِب لنا: أنه لم يبين الحق ولا أوضحه مع أمره لنا أن نعتقده، وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه، بل دل ظاهره علي الكفر والباطل، وأراد منا أن نفهم منه شيئا أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه، وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد...
وما ذكرناه من لوازم قول أهل التفويض: هو لازم لقولهم الظاهر المعروف بينهم إذ قالوا: إن الرسول كان يعلم معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة ولكن لم يبين للناس مراده بها، ولا أوضحه إيضاحا يقطع به النزاع.
وأما على قول أكابرهم: إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمها إلا الله، وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها، فعلي قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه...
ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء؛ إذ كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقا لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر ونهى، ووعد وتوعد، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر؛ لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر ولا يكون الرسول بيّن للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين...
فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد"([27]).
ويظهر من هذا الكلام أن منزع ابن تيمية ومن قلده في إنكار التفويض: ما يترتب عن تفويض معاني النصوص في تقديرهم من اللوازم "الفاسدة"؛ وهي:
1- أن الله أنزل القرآن وأمرنا بتلاوته وتدبره وتفهمه، والقول بأن معاني نصوص الصفات غير معلومة لنا يلزم عنه أن يأمرنا الله بتدبر ما لا نفهمه وتعقل ما لا سبيل لنا إلى تعقله، وذلك مراده بقوله: (من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه؛ فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟)، وقوله: (إذ كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله)؛ وهذه مغالطة بينة؛ فإن أهل التفويض لا يفوضون نصوص القرآن جميعا، وإنما يقولون بتفويض ما تشابه من نصوص الصفات، وهي نزر يسير من القرآن والحديث، والآيات المحكمات هن أم الكتاب ومعظمه، وهن محل التدبر والتعقل، وهي التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببيانها للناس؛ إذ هي موضع التكليف، أما ما تشابه منه فقد تعبدنا الله بتلاوته والإيمان بأنه حق من عنده؛ كما قال تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا). [آل عمران: 7].
2- أن القول بوجوب تنزيه الله عن ظواهر النصوص المتشابهة يلزم عنه أن يكون الخطاب الذي أنزل لهدايتنا وإخراجنا من الظلمات إلى النور ظاهره باطل وكفر؛ وذلك ما جاء في قوله: (وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه، بل دل ظاهره على الكفر والباطل). وهذا الكلام كسابقه قد حمل فيه قول أهل التفويض: إن إجراء بعض المتشابهات على ظاهرها مفض إلى الكفر والباطل حمله على سائر ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، وذلك غلط عليهم؛ فهم إنما نزهوا الله عن الظواهر الموهمة للعيب والنقص ومشابهة الخلق، وهي في غاية الندرة، ولا عمل تحتها، ولم يقولوا إن جميع القرآن والحديث يدل ظاهره على الكفر والباطل.
أما ما خاطبنا الله به وأمرنا باتباعه والرد إليه فهو محكم القرآن ومحكم الحديث، ومعظمه بحمد الله محكم.
3- أن تفويض النصوص والقول بأن معانيها لا يعلمها إلا الله يلزم عنه نسبة الجهل بتلك المعاني إلى الأنبياء والصحابة وأئمة السلف؛ لذلك يسمي المفوضة أهل التجهيل، وذلك ما جاء في قوله: (فعلي قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه...، ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء)؛ وهذا تقول على القائلين بالتفويض؛ إذ لم يقل أحد منهم: إن الأنبياء والمرسلين والملائكة والصحابة يجهلون معاني متشابه النصوص، وإنما كان قولهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة وأئمة السلف سكتوا عن هذه النصوص ولم يخوضوا في تفسيرها وتطلب معانيها، وأرجعوا علم تأويلها إلى الله تعالى.
4- أن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم تلك المعاني ولكنه سكت عنها يلزم عنه أنه لم يبلغ كل ما أمر بتبليغه ولم يبين للناس ما نزل إليهم؛ كما في قوله: (وحقيقة قول هؤلاء في المخاطِب لنا: أنه لم يبين الحق ولا أوضحه مع أمره لنا أن نعتقده...، وما ذكرناه من لوازم قول أهل التفويض: هو لازم لقولهم الظاهر المعروف بينهم إذ قالوا: إن الرسول كان يعلم معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة ولكن لم يبين للناس مراده بها، ولا أوضحه إيضاحا يقطع به النزاع).
وهذا الكلام لا يختلف عن سابقه؛ فكل ذلك إيغال في توليد ما لا يلزم عن قول أهل التفويض من اللوازم؛ فإن السكوت عن المتشابه وعدم التعرض لمعناه لا ينافي البيان والتبليغ الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ كل ما أنزل إليه من المحكم والمتشابه، وبين للناس ما يحتاجون إليه من معاني محكمات الوحي، والمكلف لا يحتاج في دينه إلى تفسير المتشابهات، ومعرفة معاني ما أضافه الله إلى نفسه من يد وعين ووجه وإصبع وقدم وساق، ونزول ومجيء...؛ بل قد نُهي عن التفكر في ذات الله، وهم مقتضى البحث عن حقائق مثل هذه المضافات.
ثم إذا ادعى المدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته لم يفوضوا معاني متشابه النصوص، ولم يسكتوا عن الخوض في تفسيرها، بل فسروها وبينوا معانيها؛ فأين تفسيرهم لها؟ فليات من يدعي ذلك بقول واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه يقولون فيه: إن لله يدا حقيقية، أو قدما حقيقية، أو عينين حقيقيتين، أو يقولون فيه: إن معنى (اليد) أو (القدم)... كذا.
[1] عمدة المريد لجوهرة التوحيد، المسمى الشرح الكبير: 2/630.
[2] أساس التقديس، ص: 333.
[3] محمد محي الدين عبد الحميد، "النظام الفريد بتحقيق جوهرة التوحيد+، المطبوع بهامش شرح جوهرة التوحيد، المسمى: إتحاف المريد بجوهرة التوحيد، للشيخ عبد السلام بن إبراهيم اللقاني المالكي، ط. مطبعة السعادة بمصر، الطبعة.2، (1375هـ/1955م)، ص: 128.
[4] الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام، ص: 25.
[5] نفسه، ص: 26.
[6] اباه بن البصير الشنقيطي، "تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر، ط. دار ابن حزم، بيروت، الطبعة.2، (1421هـ/2000م)، ص: 159
[7] الأشاعرة في ميزان أهل السنة والجماعة، ص: 166.
[8] العلو للعلي الغفار، ص: 146. قال الألباني: "رواه المصنف بإسناده عن يحيى، وهو صحيح+. مختصر العلو للعلي العظيم للذهبي، ط. المكتب الإسلامي، الطبعة.2، (1412هـ/1991م)، ص: 150.
[9] سير أعلام النبلاء: 15/105.
[10] الأسماء والصفات: 2/307.
[11] فتح الباري: 13/498.
[12] فتح الباري: 13/498.
[13] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ط. دار البصيرة، الإسكندرية، ودار الآثار، صنعاء، (بلا تاريخ): 1/443.
[14] لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، مع شرح ابن عثيمين، تحقيق: أشرف عبد المقصود، ط. أضواء السلف، الرياض، (1415هـ/1995م)، ص: 35.
[15] العلو للعلي الغفار، ص: 208.
[16] لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، مع شرح ابن عثيمين، تحقيق: أشرف عبد المقصود، ط. أضواء السلف، الرياض، (1415هـ/1995م)، ص: 31.
[17] سير أعلام النبلاء: 15/104-105.
[18] شرح لمعة الاعتقاد، ص: 32.
[19] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 4/15.
[20] مختصر العلو للعلي العظيم للذهبي، ص: 150.
[21] العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، تحقيق وتعليق: محمد زاهد الكوثري، ط. المكتبة الأزهرية للتراث، (1412هـ/1992م)، ص: 32.
[22] ذم التأويل، تحقيق: بدر بن عبد الله البدر، ط. الدار السلفية، الكويت، الطبعة.1، (1406هـ)، ص: 11.
[23] شرح النووي على مسلم: 3/21.
[24] فتح الباري:6/40.
[25] سير أعلام النبلاء: 10/506.
[26] الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب، (1394هـ/1974م): 3/14.
[27] درء تعارض العقل والنقل: 1/115.
السلام عليكم. نفع الله بكم أخي الدكتور بودميع، أود فقط تذكيركم بأن هناك نصوصا أصرح لابن قدامة في التفويض كقوله أن إيماننا إنما هو بمجرد الأفاظ..
ردحذفوعليكم السلام ورحمة الله
حذفأحسن الله إليكم