القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المنشورات

نماذج من تأويلات السلف وأهل الحديث (Examples of the interpretations of the Salaf)

 





نماذج من تأويلات السلف وأهل الحديث

د. بودميع الحسين

التأويل في اصطلاح أهل الكلام: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى غير ظاهر، وهذا معناه إن أريد مطلق التأويل؛ بصرف النظر عن صحته أو عدم صحته.

وإن أريد حد صحيحه؛ فهو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يحتمله بدليل معتبر.

هكذا حرر معناه أبو الحسن الآمدي في إحكامه؛ فقال معقبا على تعريف الغزالي: "والحق في ذلك أن يقال: أما التأويل من حيث هو تأويل مع قطع النظر عن الصحة والبطلان؛ [فـ] هو: حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له.

 وأما التأويل المقبول الصحيح؛ فهو: حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده"([1]).

واتباع مسلك التأويل للظواهر الموهمة للتشبيه يعد من أكبر مظاهر الانحراف العقدي لدى إخواننا "السلفيين"، وأبرزَ المسالك المنهجية التي انتقدوا عليها علماء الأشاعرة.

وقد شغل حيزا كبيرا من دراساتهم النقدية للعقيدة الأشعرية، حتى أفردوه موضوعا للتأليف والبحث؛ فكتب عمر الأشقر رسالة بعنوان: (التأويل: خطورته وآثاره)، وأنجز بعضهم فيه أطاريحهم للدكتوراه؛ مثل بحث (جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية)، للدكتور محمد أحمد لوح، وهو رسالة جامعية، نال بها صاحبها درجة الدكتوراه من جامعة الإمام بالسعودية، بل إن بعضهم لا يرى "خطأ الأشاعرة" ومخالفتهم لـ "أهل السنة والجماعة"؛ -أي الحنابلة- إلا في هذا الباب، حيث جعلوه الفيصل بينهم وبين الأشاعرة.

وقد بالغوا في الغلو في هذا الباب، فرفضوا التأويل مطلقا؛ مهما دعت إليه الضرورة؛ إذ يرون أن ما يعتبره الأشاعرة تأويلا، وهو –كما سلف- صرف اللفظ عن ظاهره بدليل، "من تحريف الكلم عن مواضعه، الذي ذمه القرآن وذم أهله"([2])، وهو في زعمهم تعطيل للنص في المآل؛ لهذا ينبزون الأشاعرة ومن وافقهم في ذلك بالمعطلة؛ إذ حقيقة التأويل كما يرون ما هي إلا "الاحتفاظ بالنص شكلا، مع إلغاء مفهومه حقيقة"([3]).

من أجل ذلك تواردوا على نقل الإجماع على ذم التأويل –أي تأويل- وتحريمه ومنعه، حتى غدا النفور منه وتضليل منتهجه عقيدة راسخة لدى من يتلقى عنهم من أتباعهم؛ فقد خصص فيصل الجاسم فصلا كاملا لذلك في كتابه (الأشاعرة في ميزان أهل السنة والجماعة)؛ فقال: "الفصل الرابع: في تقرير أن السلف مجمعون على تحريم تأويل الصفات، وإخراجها عن ظاهرها، وعلى وجوب الكف عن ذلك...؛ قد اتفقت كلمة السلف على إمرار الصفات على ظاهرها، والمنع من تأويلها بما يخالفه، والنكير على المؤولة الذين يصرفون آيات الصفات أو بعضها عن ظاهرها إلى مجازات الكلام"([4])، وسئل الشيخ ابن باز: ما حكم التأويل في الصفات؟ فأجاب: "التأويل منكر [!!!], لا يجوز تأويل الصفات، بل يجب إمرارها كما جاءت على ظاهرها اللائق بالله I بغير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل..., التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها..، مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن سار في ركابهم, وهو مذهب باطل أنكره أهل السنة وتبرءوا منه وحذروا من أهله. والله ولي التوفيق"([5]). وهم يصرون على تبني الطريقة التي "ترفض منهج التأويل بإطلاق"([6])، وينسبونها لإجماع السلف.

ثبوت التأويل عن السلف

وذلك افتراء على السلف بلا ريب؛ ولا يصح بحال زعمهم أن السلف لم يؤولوا؛ بل قد ورد عنهم التأويل في نصوص الصفات وفي غيرها؛ ومن نماذج التأويل المأثورة عن السلف:

1- تأويل (الكشف عن الساق) في قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) [القلم: 42] بشدة الأمر من هول القيامة.

فقد أسند أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات من أكثر من وجه عن ابن عباس تأويله بذلك؛ فقال: "أنا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيُّ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَبَّانِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)؛ قَالَ: إِذَا خُفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، فَابْتَغُوهُ مِنَ الشِّعْرِ، فَإِنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَبِ؛ أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ: (...وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا يَوْمُ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ"([7]).

وقال رحمه الله: "أخبرنا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أبي إسْحاق المزَكَّي، أنا أبو الحسَن الطَّرَائِفِي، نا عُثْمانُ بْنُ سعيد، نا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، في قوله عز وجل: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قَالَ: "هُوَ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الْمُفْظِعُ مِنَ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَة""([8]).

وهذان إسنادان كل منهما حسن؛ كما قال الحافظ ابن حجر بعد الإشارة إلى أثر ابن عباس: "وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن"([9]).

وقال البيهقي: "أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، نا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، نا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الْفَرَّاءُ، حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَرَأَ: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)([10])؛ [قال:] يُرِيدُ الْقِيَامَةَ وَالسَّاعَةَ لِشِدَّتِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْشَدَنِي بَعْضُ الْعَرَبِ لِجِدِّ طَرَفَةَ: كَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا   وَبَدَا مِنَ الشَّرِّ الصُّرَاحْ"([11]).

وهذا إسناد صحيح؛ كما قال الحافظ في الفتح: "وأسند البيهقي من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: يريد يوم القيامة"([12]).

وهذا تأويل صريح من ابن عباس رضي الله عنه؛ حمل فيه لفظ (الكشف عن الساق) على غير المتبادر منه، وهو تعرية ما بين الكعبين والركبة من الرِّجْل، وقد استشهد لصحة تأويله بشعر العرب؛ كما قال بعده: (أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ: ... وَقَامَتِ الْحَرْبُ   بِنَا عَلَى سَاقْ).

ومن شواهد استعمال الكشف عن الساق في هذا المعنى أيضا:قول الشاعر العربي:

قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشُدُّوا     وَجَدَّتِ الْحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا

وَقَول بَعْض الْأَعْرَابِ، وَكَانَ يَطْرُدُ الطَّيْرَ عَنِ الزَّرْعِ فِي سَنَةٍ جَدْبٍ:

عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِنْ إِشْفَاقِهَا   وَمَنْ طِرَادِي الطَّيْرَ عَنْ أَرْزَاقِهَا

فِي سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا   ............................

ولا يُخرِج هذا عن كونه تأويلا ادعاءُ أن هذه الآية ليست من آيات الصفات؛ إذ فيه صرف اللفظ عن ظاهره، وذلك هو مراد المتأولين بالتأويل.

وثبوت هذا التفسير عن عبد الله بن عباس مما لا ينبغي أن يتطرق إليه الشك لوروده عنه بطرق عدة بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف ينجبر بالثابت منها.

ومع ذلك فقد كتب الباحث "السلفي" سليم الهلالي رسالة مفردة في محاولة دفع دعوى اختلاف الصحابة في تفسير هذه الآية، باسم: "المنهل الرقراق في تخريج ما روي عن الصحابة والتابعين في تفسير (يوم يكشف عن ساق) وإبطال دعوى اختلافهم فيها".

وقد أجهد نفسه كثيرا في تكلف رد وتضعيف كل ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن التابعين في تفسير (الكشف عن الساق) في الآية بشدة القيامة، بيد أنه لم يفلح في تقرير النتيجة التي يهواها بأدلة تثمر الاقتناع لدى القارئ بصحتها، وإنما جاء كلامه في الموضوع متهافتا مباعدا لمقتضى الأمانة والإنصاف، موجَّها تحت تأثير التعصب المذهبي إلى تقرير نتيجة محددة سلفا قبل الشروع في البحث؛ ما يجعله متهما في بحثه ابتداء غير مأمون فيما يقرره من الأحكام بشأن المرويات التي انتدب لتخريجها ونقدها؛ وقد تعرضنا لنقد هذا الكتاب في مقال سابق، وبينا تهافت كلام الكاتب فيه ومخالفته لمقتضى الأمانة والنزاهة في البحث، وعنوان المقال: (تهافت سليم الهلالي في كتاب المنهل الرقراق...)؛ وهذا رابطه:

 تهافت سليم الهلالي في كتاب المنهل الرقراق

2- تأويل (الوجه) في قوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص: 88] بذاته تعالى، أو ملكه، أو ما أريد به وجهه من العمل.

ذكر ابن تيمية أن طائفة من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة يقولون في قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه): "إن معنى الآية: أن كل ممكن هو باعتبار ذاته هالك، أو هو عدم محض ونفي صرف، وإنما له الوجود من جهة ربه؛ فهو هالك باعتبار ذاته، موجود بوجه ربه؛ أي من جهته هو موجود"([13])

ثم قال: "وإذا كان المقصود هنا الكلام في تفسير الآية فنقول: تفسير الآية بما هو مأثور ومنقول عن من قاله من السلف والمفسرين؛ من أن المعنى: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه هو أحسن من ذلك التفسير المحدث"([14]). 

وأعاد مثل هذا الكلام في رده على استدلال الرازي بظاهر الآية على فناء العرش وكل الأمكنة والجهات؛ فقال: "إذا كان المقصود هنا الكلام في تفسير الآية فنقول: تفسير الآية بما هو مأثور ومنقول عن من قاله من السلف والمفسرين من أن المعنى: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه فأنه ذكر ذلك بعد نهيه عن الإشراك وإن يدعو معه إلها آخر وقوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} يقتضي أظهر الوجهين: وهو أن كل شيء هالك إلا ما كان لوجهه من الإيمان والأعمال وغيرهما روى عن أبي العالية قال إلا ما أريد به وجهه وعن جعفر الصادق: إلا دينه ومعناهما واحد"([15])

واختار هذا التفسير ابن القيم؛ فقال في كتاب حادي الأرواح في مقام الرد على من استدل بالآية على فناء الجنة والنار: "وأما احتجاجكم بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه} فإنما أتيتم من عدم فهمكم معنى الآية واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن نظيرا احتجاج إخوانكم بها على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما فلا انتم وفقتم لفهم معناها ولا إخوانكم، وإنما وفق لفهم معناها السلف وأئمة الإسلام؛ ونحن نذكر بعض كلامهم في الآية؛ قال البخاري في صحيحه: يقال كل شيء هالك إلا وجهه إلا ملكه، ويقال: إلا ما أريد به وجهه"([16]).

وممن نقل عنه من السلف تفسير الآية بذلك: ابن عباس ومجاهد وسفيان الثوري

أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس: (كل شيء هالك إلا وجهه) قال: "إلا ما أريد به وجهه"([17]).

قال البيهقي رحمه الله: "ورويناه عن سفيان الثوري أنه قال: في تفسير هذه الآية: "كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه"، و في رواية: "إلا ما ابتغى به وجهه من الأعمال الصالحة""([18]).

البخاري يفسر الوجه بالملك

قال البخاري في كتاب التفسير باب سورة القصص: "(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ)؛ إِلاَّ مُلْكَهُ، وَيُقَالُ: إِلاَّ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ".

قال الحافظ في الفتح: "قوله: (ويقال: إلا ما أريد به وجهه) نقله الطبري أيضا عن بعض أهل العربية، ووصله ابن أبي حاتم من طريق خصيف عن مجاهد مثله، ومن طريق سفيان الثوري قال: إلا ما ابتغي به وجه الله من الأعمال الصالحة"([19]).

3- تأويل (القرب) الذي أضافه الله إلى نفسه في قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) [الواقعة: 85] بقرب ملائكته.

يقول ابن جرير: "(ونحن أقرب إليه منكم) يقول: ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم"([20]).

ولا يخالف أخواننا السلفيون في كون ابن جرير من أئمة السلف.

وقد مضى نقل هذا التأويل عن ابن تيمية.

وصرح الإمام أبوحنيفة النعمان بتأويل قرب الله تعالى من عبده بالكرامة وبعده عنه بالهوان؛ قال رحمه الله في الفقه الأكبر: "وليس قرب الله تعالى ولا بعده عن طريق طول المسافة وقصرها، ولكن على معنى الكرامة والهوان"([21]).

4- تأويل مجيء سورتي البقرة وآل عمران يوم القيامة في الحديث بمجيء ثوابهما، وذلك فيما أخرجه مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله ع يقول: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ"([22]).

وممن أول مجيء السورتين بذلك من أئمة السلف: الإمام الترمذي وأبو بكر البزار وغيرهما.

قال أبو عيسى الترمذي: "ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم أنه يجيء ثواب قراءته؛ كذا فسَّر بعضُ أهل العلم هذا الحديث وما يشبه هذا من الأحاديث؛ أنه يجيء ثواب قراءة القرآن، وفي حديث النواس عن النبي ع ما يدل على ما فسروا؛ إذ قال النبي ع: (وأهله الذين يعملون به في الدنيا)؛ ففي هذا دلالة أنه يجيء ثواب العمل"([23]).

وقال أبو بكر البزار: "وإنما معنى: (يَجِيئَانِ يَوْمَ الْقِيامَةِ): يجيء ثوابهما؛ كما يروى عن رسول الله ع أنه قال: (إن اللقمة لتجيء مثل أحد)، وقال: (ظِلُّ المؤمنِ يومئذ صدقتُه)؛ فإنما هذا كله على ثوابه"([24]).

وهذا عين التأويل كما يعرفه علماء الكلام، إذ فيه صرف للفظ الحديث عن ظاهره؛ إذ ظاهره إنما هو مجيء ذات السورتين لا ثوابهما. 

5- تأويل ضحك الله في الحديث بالرضا، وبالرحمة والمغفرة والعفو، ومن الأخبار التي ورد فعل الضحك فيها مضافا إلى الله تعالى ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ع قال: "يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؛ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ؛ يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ"([25]).

وقد روي تأويل ضحك الله برحمته عن الإمام أبي عبد الله البخاري؛ قال أبو سليمان الخطابي في أعلام السنن: "قال أبو عبد الله [يعني البخاري]: معنى الضحك: الرحمة، وهذا من رواية الفربري، ليس عن ابن معقل"([26]).

وقال أبو بكر البيهقي: "وأما الضحك المذكور في الخبر؛ فقد روى الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله أنه قال: (معنى الضحك فيه الرحمة)"([27]).

وممن ارتضى تأويل الضحك من الله بالرضا أبو سليمان الخطابي؛ قال رحمه الله بعد ذكر تأويل البخاري السابق: "قول أبي عبد الله قريب، وتأويله على معنى الرضى لفعلهما أقرب وأشبه، ومعلوم أن الضحك من ذوي التمييز يدل على الرضى والبشر والاستهلال منهم دليلَ قبول الوسيلة، ومقدمة إنجاح الطلبة، والكرام يوصفون عند المسألة بالبشر وحسن اللقاء، فيكون المعنى في قوله: (يضحك الله إلى رجلين)؛ أي: يجزل العطاء لهما"([28]).

وأول الحافظ أبو عمر ابن عبد البر ضحك الله بالرحمة والرضوان والعفو والغفران؛ يقول رحمه الله في كتاب الاستذكار: "وأما قوله: (يضحك الله إليه)؛ أي يتلقاه الله عز وجل بالرحمة والرضوان والعفو والغفران، ولفظ (الضحك) هاهنا مجاز؛ لأن الضحك لا يكون من الله عز و جل على ما هو من البشر"([29]).

وبعد فهذه نماذج مما صح عن علماء السلف من تأويل نصوص الصفات وغيرها؛ رأينا فيها أنهم أولوا (الكشف عن الساق) بشدة الأمر من هول القيامة، وأولوا (الوجه) في قوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) بذاته تعالى، أو ملكه، أو ما أريد به وجهه من العمل، وأولوا (القرب) الذي أضافه الله إلى نفسه في قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) بقرب ملائكته، وقرب الله من عبده بكرامة العبد على الله، وبعده منه بهوانه عليه، ومجيء سورتي البقرة وآل عمران يوم القيامة في الحديث بمجيء ثوابهما، وضحك الله برضاه، وبرحمته وعفوه وغفرانه...، ورأينا أن ابن تيمية أقر بثبوت بعض هذه التأويلات وغيرها عن أئمة السلف.

فلا يسع من يحرم التأويل مطلقا إذا وقف عليها إلا أحد ثلاثة أمور:

ـ إما أن يكابر فينكر ثبوتها، ولا مستمسك لمن ادعى ضعفها من جهة النقل وأنكر صحتها؛ لثبوتها في كتب أصحابها، وصحة أسانيدها إلى من رويت عنهم بالإسناد.

ـ وإما أن يضلل ويبدع هؤلاء الأئمة، وذلك ما لا يجرؤ عليه "السلفيون" الذين يسارعون إلى تضليل وتبديع علماء الأشعرية الذين قالوا بمثل هذه التأويلات.

ـ وإما أن يعترف بخطئه في إنكار مطلق التأويل؛ وهذا مقتضى الإنصاف ونبذ التعصب والهوى، وهو ما نرجوه من إخواننا "السلفيين" هداهم الله.

ثم ماذا على غلاة الحنابلة "السلفيين" لو أقروا بالحاجة إلى التأويل في بعض المواضع؟ وليس في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة حرف واحد يمنعه، وإنما هي أقوال قالها بعض الأئمة في مواجهة غلاة المؤولة من الجهمية والباطنية، وما كان من قصدهم أن يخطئوا -بله أن يضللوا- مَن نَزع إلى التأويل السائغ عند الحاجة إليه، كيف وهم يفعلون ذلك كما رأيت وكما سترى؟

وقد تبين أن الحاجة إلى التأويل في بيان دلالة بعض النصوص قائمة؛ خاصة عندما يتعلق الأمر بنصوص توهم بظاهرها نسبة ما لا يليق إلى الباري  تعالى من النقص والمحال.

اعتراف ابن تيمية بالحاجة إلى التأويل

هذا وقد اعترف ابن تيمية نفسه - مع تشدده في الإنكار على المتأولين -  بالحاجة إلى التأويل، وأنه لا يُنْكِر كل ما يسمى تأويلا، فقال: "وقد تقدم أنا لا نذم كل ما يسمى تأويلا مما فيه كفاية، وإنما نذم تحريف الكلم عن مواضعه، ومخالفة الكتاب والسنة، والقول في القرآن بالرأي"([30]).

وقال: "ويجوز باتفاق المسلمين أن تُفَسَّر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى، ويصرف الكلام عن ظاهره؛ إذ لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السنة، وإن سمي تأويلا وصرفا عن الظاهر؛ فذلك لدلالة القرآن عليه، ولموافقة السنة والسلف عليه؛ لأنه تفسير القرآن بالقرآن، ليس تفسيرا له بالرأي، والمحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين"([31]).

وأول (الوجه) في قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) بقبلة الله؛ فقال: "إن الله تعالى قد قال: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) فأخبر أن العبد حيث استقبل فقد استقبل قبلة الله، ليبين أنه حيث أمر العبد الاستقبال والتولية فقد استقبل وولي قبلة الله ووجهته"([32]).

وقال: "ومنه قوله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)؛ أي قبلة الله ووجهة الله، هكذا قال جمهور السلف، وإن عدها بعضهم في الصفات"([33]).

وابن تيمية يحمل (الوجه) في الآية على معنى الوجهة؛ لهذا نفى أن تكون الآية من آيات الصفات؛ فقال: "وليست هذه الآية من آيات الصفات، ومن عدها في الصفات فقد غلط كما فعل طائفة"([34]).

ولكن قوله في الآية: إنها ليست من آيات الصفات لا يخرج التفسير الذي ارتضاه لها عن مفهوم التأويل؛ لأنه حملٌ للفظ (وجه الله) على غير المتبادر منه، وليس للتأويل معنى سوى ذلك؛ وتسمية الحمل على غير الظاهر تأويلا ليس من شرطه أن يكون النص المؤول في غير الصفات.

كما أول قرب الله من عباده في قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، وقوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ)؛ فقال: "وأما قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). [ق: 16-18]؛ وقوله: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ). [الواقعة: 83-85]؛ فالمراد به قربه إليه بالملائكة، وهذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف، قالوا: ملك الموت أدنى إليه من أهله، ولكن لا تبصرون الملائكة"([35]).

 

 



[1]  الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: د. سيد الجميلي، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة.1، (1404هـ): 3/59.

[2]  عمر الأشقر، "التأويل: خطورته وآثاره"، ط. دار النفائس، عمان، الطبعة.1، (1412هـ/1992م)، ص: 12.

[3]  سفر الحوالي، "الأشاعرة: عرض ونقض"، : 87.

[4]  الأشاعرة في ميزان أهل السنة والجماعة، ص: 291.

[5]  مجموع فتاوى ابن باز، ط. دار القاسم للنشر، الرياض، الطبعة.1، (1420هـ): 5/372-374.

[6]  الحوالي، "الأشاعرة: عرض ونقد+، ص: 99.

[7]  الأسماء والصفات، تحقيق: عبد الله بن محمد الحاشدي، ط. مكتبة السوادي، جدة – السعودية، الطبعة1، (1413هـ/1993م): 2/183.

[8]  نفسه: 2/184.

[9]  فتح الباري: 13/428.

[10]  هكذا هو في كتاب الأسماء والصفات للبيهقي والذي في كتاب معاني القرآن للفراء كما سيأتي: (يَوْمَ تَكْشفُ عَنْ سَاقٍ) بالتاء المفتوحة.

[11]  الأسماء والصفات: 2/185.

[12]  فتح الباري: 13/428.

[13]  مجموع الفتاوى: 2/25.

[14]  مجموع الفتاوى: 2/28

[15]  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية:3/125.

[16]  حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ص: 35-36.

[17]  انظر: كتاب فتح القدير، عند تفسير هذه الآية.

[18]  شعب الإيمان: 1/309.

[19]  فتح الباري: 8/505.

[20]  جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 23/157.

[21]  الفقه الأكبر، مع شرح الرومي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة.1، (2015)، ص: 342.

[22]  صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن فى الصلاة وتعلمه، رقم (1871).

[23]  سنن الترمذي، ط. مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة.1، (بلا تاريخ)، ص: 645.

[24]  البحر الزخار، المعروف بمسند البزار، تحقيق: عادل بن سعد، ط. دار العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة.1، (1424هـ/2003م): 10/303.

[25]  صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل، رقم (2671).

[26]  أعلام السنن في شرح صحيح البخاري، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة.1، (2007): 2/119.

[27]  الأسماء والصفات: 2/72.

[28]  أعلام السنن: 2/119.

[29]  الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار..، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة.1، (2018م): 5/97.

[30]  مجموع الفتاوى: 6/20.

[31]  مجموع الفتاوى: 6/21.

[32]  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية: 4/480-481.

[33]  مجموع الفتاوى: 2/428-429.

[34]  مجموع الفتاوى: 3/193.

[35]  شرح حديث النزول، ط. المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة.3، (1381هـ/1961م)، ص: 121.

تعليقات

التنقل السريع