هل تاب أبو حامد الغزالي عن المذهب الأشعري؟
(Did Abu Hamid Al-Ghazali repent from the Ash'ari school?)
د. الحسين بودميعيعد "السلفيون" أبا حامد الغزالي من نماذج أئمة الأشاعرة "التائبين"؛ الذين اهتدوا في آخر أمرهم إلى ما يظنونه منهج السلف، ومن الذين عادوا إلى ذم الخوض في علم الكلام، وتركوا ما كانوا عليه من الآراء والعقائد؛ وقد بنوا هذه الدعوى على ما جاء في الرسالة التي ألفها رحمه الله جوابا عن سؤال الشيخ أبي القاسم عبد الله بن أحمد بن سياه عن مذهب السلف في الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي يوهم ظاهرها التشبيه، وسماها (إلجام العوام عن علم الكلام).
حيث فهموا من عنوانها أن أبا حامد يذم علم الكلام مطلقا، ويرى إلجام كل مسلم عن الخوض فيه، وظنوا أن ترجيحه فيها مذهب السلف فيما يجب على العوام من الوظائف تجاه ظواهر نصوص الصفات دليل على رجوعه عن مذهبه الأشعري إلى ما يعدونه منهج السلف، وهم في ذلك إنما يقلدون ابن تيمية ويرددون ما قاله بشأن التوبة المزعومة لأئمة الأشعرية.
يقول ابن تيمية: "وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه، ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة، ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث وصنف (إلجام العوام عن علم الكلام"([1]).
ويقول محمد الجامي: "وللإمام الغزالي مؤلفات كثيرة في مختلِف العلوم، ومما يتصل ببحثنا هذا من مؤلفاته كتابه اللطيف: (إلجام العوام عن علم الكلام)؛ الذي أشاد فيه بمذهب السلف، وتحدث عن حقيقته، مبيناً أنه هو الحق، وأن من خالف السلف فهو مبتدع؛ لأنه مذهب الصحابة والتابعين"([2]).
هكذا جعلوا ما قرره أبو حامد في كتابه اللطيف (إلجام العوام عن علم الكلام) وما جاء فيه من الإشادة بمذهب السلف، وأن من خالفه فهو مبتدع لأنه مذهب الصحابة والتابعين، دليلا كافيا على أنه تاب عن أشعريته واتبع في آخر أمره العقيدة التي يرتضونها ويعدونها عقيدة أهل السنة والجماعة.
هل يصح مضمون كتاب (إلجام العوام) دليلا على رجوع الغزالي عن مذهب الأشاعرة؟
من قرأ كتاب (إلجام العوام) سيدرك بيسر أن "السلفيين" جانبوا الصواب حين بنوا عليه دعوى رجوع الغزالي عن أشعريته إلى ما يعدونه عقيدة أهل السنة والجماعة، وأنه صار آخر أمره إلى ذم الخوض في علم الكلام مطلقا؛ وذلك للأسباب التالية:
1- أن ما قرره رحمه الله في هذا الكتاب لم يخرج فيه عن المذهب الأشعري بحال، ولم يرتض فيه معتقد "السلفيين" الذي يجعلونه هو معتقد السلف، بل كل ما قرره فيه هو: تحذير من ليس من أهل الرسوخ في العلم من الخوض في تأويل النصوص المتشابهة، ومنع العلماء من بث ذلك في عوام الناس، وأن ذلك هو مذهب السلف، وهذا هو صريح عنوان الكتاب؛ فإن مفهوم تقييد وجوب الإلجام عن الكلام بالعوام: أن غير العوام لا يجب إلجامهم عنه، وقد صرح بهذا التقييد في غير موضع من الكتاب؛ مثل:
أ- قوله: "حقيقة مذهب السلف ـ وهو الحق عندنا ـ أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث [يعني أحاديث الصفات المشكلة] من عوام الخلق، يجب عليه فيه سبعة أمور؛ التقديس، ثم التصديق، ثم الاعتراف بالعجز، ثم السكوت، ثم الكف، ثم الإمساك، ثم التسليم لأهل المعرفة"([3])،
ب- قوله: "فهذه سبع وظائف اعتقد كافة السلف وجوبها على كل العوام"([4]).
ج- قوله: "الوظيفة الرابعة: السكوت عن السؤال؛ وذلك واجب على العوام؛ لأنه بالسؤال متعرض لما لا يطيقه، وخائض فيمل ليس هو أهلا له"([5]).
فبيِّنٌ من هذه النصوص أن حديثه في الكتاب إنما هو عما يجب على العوام إزاء الظواهر الموهمة للتشبيه، وفكرة الكتاب كله قائمة على أن حكم الخوض في تأويل الظواهر الموهمة يختلف فيه العوام عن العارفين الراسخين في العلم؛ وأنه يجب إلجام العوام عنه دون أهل الرسوخ في العلم.
2- أنه قرر فيه كثيرا من الآراء التي ينكرها ابن تيمية وأتباعه، وينفون كونها من عقائد السلف؛ كتفويض معاني النصوص المتشابهة، وتنزيه الله عن الجسمية، والأعضاء، والنزول على ظاهره، وغيرها؛ كما في المواضع التالية:
أ- قوله: "أما بعد فقد سألتني أرشدك الله عن الأخبار الموهمة للتشبيه عند الرعاع والجهال من الحشوية الضلال؛ حيث اعتقدوا في الله وصفاته ما يتعالى ويتقدس عنه من: الصورة، واليد، والقدم، والنزول، والانتقال، والجلوس على العرش، والاستقرار، وما يجري مجراه مما أخذوه من ظواهر الأخبار وصورها، وأنهم زعموا أن معتقدهم فيه معتقد السلف"([6])؛ وهذا تصريح منه بتضليل من يثبت لله حقيقة اليد والقدم والنزول...، وإثبات ذلك هو عين مذهب ابن تيمية، الذي يراه هو وأتباعه مذهب السلف.
ب- قوله: "رواية الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولَه: (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا؛ فيقول: هل من داع فأستجيب له...)؛ فهذا الحديث سيق لنهاية الترغيب في قيام الليل...، وليس فيه إلا إيهام لفظ النزول عند الصبي أو عند العامي الجاري مجرى الصبي، وما أهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس عن صورة النزول؛ بأن يقول له: إن كان نزوله إلى سماء الدنيا ليسمعنا نداءه وقوله فما أسمعنا؛ فأي فائدة في نزوله؟ ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو السماء العليا، فهذا القدر يُعَرِّف العامي أن ظاهر النزول باطل...، بل يُضطَر بهذا القدر كل عامي إلى أن يتيقن نفي صورة النزول، وكيف وقد علم استحالة الجسمية عليه، واستحالة الانتقال على غير الأجسام، واستحالة النزول من غير انتقال"([7]). أليس هذا نفيا صريحا لظاهر النزول؟ وهل هذا هو مذهب السلف كما يراه ابن تيمية وتبعا له "السلفيون" في مسألة النزول؟
ج- قوله: "وأما التقديس فأعني به تنزيه الرب عن الجسمية وتوابعها"([8])، وابن تيمية لا يقول بنفي الجسمية ولا بإثباتها، ويرى أن ذلك هو منهج السلف.
د- قوله: "وأما السكوت؛ فألا يسأل عن معناه [أي عن معنى ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم من مشكل الحديث]، ولا يخوض فيه، ويعلم أن سؤاله عنه بدعة"([9]). وهذا هو التفويض المعنوي الذي يعده ابن تيمية "شر أقوال أهل البدع والإلحاد".
3- أنه ذكر فيه ـ كما سلف ـ من أسماهم (الحشوية) ووصفهم بالضُّلاَّل، وأنهم ـ مع ضلالهم ـ يدَّعون أن معتقدهم هو معتقد السلف، ومن المعلوم أن لقب (الحشوية) يطلقه الأشاعرة على متأخري الحنابلة القائلين بإجراء نصوص الصفات على ظواهرها وعدم تفويض معانيها.
يقول إمام الحرمين في البرهان: "ذهبت الحشوية من الحنابلة وكَتَبَة الحديث إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم، وهذا خزي لا يخفى مدركه على ذي لب"([10]).
ويذكر "السلفيون" أن اسم (الحشوية) مما يلقب به الأشاعرة "أهل السنة والجماعة" يعنون ابن تيمية وأتباعه؛ ففي رسالة الحوالي أن "كتب الأشاعرة تتبرأ من (الحشوية، والمجسمة، والنابتة)، وغير ذلك مما يلقبون به أهل السنة والجماعة"([11])؛ فهل يعقل أن يؤلف أحد كتابا في تقرير منهج "أهل السنة والجماعة"، ثم يصفهم فيه بالحشوية الضلال؟
[1] مجموع الفتاوى: 4/73.
[2] الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه، ط. المجلس العلمي التابع للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة.1، (1408هـ)، ص: 157-171.
[3] إلجام العوام عن علم الكلام، ط. دار المنهاج، بيروت، الطبعة.1، (1439هـ/2017م)، ص: 49.
[4] نفسه، ص: 50.
[5] نفسه، ص: 63.
[6] نفسه، ص: 45.
[7] نفسه، ص: 79-80.
[8] نفسه، ص: 49.
[9] نفسه، ص: 30.
[10] البرهان في أصول الفقه، دراسة وتحقيق: صلاح بن محمد بن عويضة، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة.1، (1418هـ/1997م): 1/231.
[11] منهج الأشاعرة في العقيدة، ص: 1.
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا