أزمة "السلفيين"
مع ظواهر النصوص المتشابهة
بقلم د. الحسين بودميع
ورد في الصحيحين وغيرهما، واللفظ للبخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»([1]).
في ظاهر هذا الحديث نسبة ما لا يليق للباري تعالى من الدنو إلى العباد والمشي والهرولة نحوهم، وذلك مما يحيله العقل؛ «فإن التقرب والإتيان والمشي والهرولة محتملة للحقيقة والمجاز، وحملها على الحقيقة يقتضى قطع المسافات وتواتى الأجسام، وذلك لا يليق بالله تعالى، فاستحال حملها على الحقيقة، ووجب حملها على المجاز؛ لشهرة ذلك في كلام العرب»([2])، وقد لجأ أهل العلم إلى تأويل النص بما يليق بالباري تعالى من المعاني حسب قوانين اللسان العربي؛ فذكروا أن معنى الهرولة في الحديث: الإسراع إلى رحمة العبد وقبول عمله، وأن الله يقابل إقبال العبد عليه بدرجة من التوفيق والتسديد أعلى وأسرع من درجة إقباله على الطاعة.
"السلفيون" ينسبون لله تعالى الهرولة الحقيقية
ولكنَّ الحنابلةَ المعاصرين أغلبهم على وجوب إجراء الحديث على ظاهره، وإثبات الهرولة لله تعالى على الحقيقة، وقد أكثروا الكلام على هذا الحديث وما يتضمنه من نسبة القرب والانتقال والهرولة لله تعالى، وأكثروا من استفتاء الشيوخ حوله، وقد جاءت إجابات مبرزيهم؛ كالألباني وابن باز والعثيمين، وأعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء متوافقة على لزوم إجراء الحديث على ظاهره من غير تأويل، ونسبة الهرولة لله، ومن خرج منهم عن الصف وأول الهرولة في الحديث بأنها كناية على الإسراع في القبول والمغفرة والثواب؛ كالفوزان والمدخلي شددوا عليه النكير، ونادوا عليه بالخطأ أو بمفارقة عقيدة أهل السنة.
"شيخ" "سلفي" يتخصص في الهرولة
ومن أغرب ما كان منهم في مسألة (الهرولة) هذه أن ينفق أحد منهم يدعى (فوزي بن عبد الله الحميدي) جهدا وزمانا غير يسيرين في إثباتها، والإنكار على من يؤولها، حتى صار متخصصا في الهرولة، وأصبح الكلام عنها هو شغله الشاغل؛ فألف ست رسائل في ذلك؛ وهي:
1- الأجوبة المفصلة في إثبات لله صفة الهرولة.
2- الثمار المتدللة في إثبات لله صفة الهرولة.
3- فتاوى أهل العلم في إثبات صفة الهرولة.
4- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في إثبات لله صفة الهرولة.
5- السّيوف المسلولة المكلّلة لقطع دابر ربيع المدخليّ لتعطيله لصفة الهرولة.
6- قصف العرقلة لمن عطل صفة الهرولة.
وفي سبيل إثبات ما أراد نقل في بعض هذه الرسائل عن أبي إسحاق الحربي في غريب الحديث، وعن أبي موسى المديني في المجموع المغيث تفسيرهما للفظ (الهرولة) بأنه: المشي السريع، وهو شرح لغوي، ثم قال معلقا: «قلت: وهذا إثبات منهما لصفة الهرولة على حقيقتها، وهي المشي السريع، وهي في حق الله تعالى على ما يليق بجلاله وكماله»([3]).
وبعد سرد بعض روايات الحديث وتخريجها، قال: «قلت: وهذه الأحاديث النبوية [كذا قال، وهي قدسية] تدل على ثبوت صفة الهرولة لله تعالى...، فإذا أخبرنا عن نفسه أنه يأتي هرولة، قلنا: آمنا بالله تعالى»([4]).
وقد أغرب هذا الشخص؛ فادعى إجماع السلف على إثبات صفة الهرولة لله تعالى، وأثبت هذه الدعوى على غلاف الرسالة التي شهر فيها «(السّيوف المسلولة المكلّلة لقطع دابر ربيع المدخليّ لتعطيله لصفة الهرولة)، كما عنون؛ حيث أتبع هذا العنوان الطويل الغريب بعنوان فرعي أطول وأغرب؛ طرفاه: (دراسة أثرية منهجية علمية في كشف زيْغ ربيعٍ...، بالإضافة إلى: ذكر إجماع السّلف على إثبات صفة الهرولة)»([5]).
وقد ذُهلتُ أول الأمر من نسبته هذا القول -وهو تجسيم صريح- إلى إجماع السلف، حتى إذا طالعت الرسالة لأرى أدلته على هذا الإجماع، وجدت أن سنده في ذلك: أن نقل عن بعض الحنابلة كابن تيمية دعوى إجماع السلف على إمرار نصوص الصفات على ظاهرها من غير تحريف ولا تكييف، وأتبعه بأن حديث الهرولة من نصوص الصفات؛ ليستنتج أنه لا بد أن يكون السلف قد أجمعوا على إثبات ظاهره، وهو نسبة الهرولة لله، ومع أنها طريقة متعسفة في إثبات دعوى الإجماع، فإن في السلف من قد صرح بتأويل الحديث وصرفه عن ظاهره؛ كقتادة والشعبي وغيرهما من علماء السلف الذين حكى عنهم الترمذي والبغوي ذلك كما سترى، وكذا البزار وابن حبان والخطابي والبيهقي والنووي على ما سيأتي.
ولو ادعى أحد إجماع السلف على عكس ما ادعى؛ وهو تأويل الهرولة وغيرها في الحديث لكان أقرب إلى الصواب منه.
ولتقرير ما تبناه من الجمود على ظاهر الحديث، استفتح رسالته التي جمع فيها فتاوى بعض شيوخ الحنابلة العصريين في لزوم إثبات الهرولة لله بقوله: «اعلم رحمك الله أن أهل السنة والجماعة في هذا العصر يثبتون لله تعالى صفة الهرولة على ظاهر الأحاديث على ما يليق بجلاله وكماله»([6])، ثم نقل فتاوى كل من الألباني وابن باز والعثيمين في ذلك؛ ولنكتف بنقل فتوىً لأجرأ الثلاثة في التصريح بإثباتها، والإنكار على من ينفيها، وهو ابن عثيمين رحمه الله؛ جاء في فتاويه: «سئل فضيلة الشيخ: عن صفة الهرولة؟ فأجاب بقوله: صفة الهرولة ثابتة لله تعالى كما في الحديث الصحيح...، هذه الهرولة صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل، لأنه أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بنفسه؛ فوجب علينا قبولها بدون تكييف»([7]).
هكذا يجهر الحنابلة المعاصرون بما لم يسبقهم إليه أحد من نسبة ما هو من سمات المحدثين صراحة للباري تعالى، وهو المشي والركض نحو عباده، جمودا على الظاهر، وفرارا من التأويل.
المعنى المراد من قوله تعالى: (أتيته هرولة)
ولا أظن أن عاقلا حَصَّل الحد الأدنى من الإلمام بأساليب العرب ومعهودها في لسانها سيخفى عليه بداهة أن لفظ (الهرولة) في الحديث «كناية عن سرعة الرحمة إلى العبد ورضا الله عنه وتضعيف الأجر»([8])، ولكن إصرار الغلاة من الحنابلة على الرفض المطلق للتأويل، وتشديدهم غير المبرر في تحريمه مطلقا، أوردهم مهالك صريح التجسيم والتشبيه، ونسبة المحال إلى الباري تعالى؛ فإن من اعتقد أن الله يهرول نحو عبده هرولة حقيقية لا يمكن إلا أن يعتقد - كما يعتقد بنو إسرائيل - أن الله جسم ينتقل من مكان إلى مكان، ويحل بين عباده.
ولست أدري كيف ستكون هرولة الله تعالى نحو عباده لو تقرب إليه في وقت واحد آلاف من عباده في جهات مختلفة كما هو واقع؟ هل يتصور العقل أن يهرول الباري جل جلاله نحو الجميع في كل الجهات في آن واحد؟
ماذا على غلاة الحنابلة "السلفيين" لو أقروا بالحاجة إلى التأويل في بعض المواضع؟ وليس في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة حرف واحد يمنعه، وإنما هي أقوال قالها بعض الأئمة في مواجهة غلاة المؤولة من الجهمية والباطنية، وما كان من قصدهم أن يخطئوا -بله أن يضللوا- مَن نَزع إلى التأويل السائغ عند الحاجة إليه، كيف وهم يفعلون ذلك كما هو صنيعهم في توجيه هذا الحديث؟
وفي مقالة سابقة عن هذه أوردنا جملة من تأويلات السلف لهذا الغرض؛ فارجع إليها حتى تعلم أن إنكار التأويل مطلقا إنما هو من منهج "السلفيين" لا من منهج السلف.
ودونك طائفة من أقوال الأئمة في تأويل الحديث على النحو الذي ذكرناه:
ـ قال أبو عيسى الترمذي في جامعه بعد أن أسند الحديث: «ويروى عن الأعمش في تفسير هذا الحديث: من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، يعني بالمغفرة والرحمة، وهكذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث؛ قالوا: إنما معناه؛ يقول: إذا تقرب إلي العبد بطاعتي وما أمرت أسرع إليه بمغفرتي ورحمتي»([9])
ـ وترجم له أبو حاتم ابن حبان في صحيحه بقوله: (ذكر الإخبار بأن مغفرة الله جل وعلا تكون أقرب إلى المطيع من تقربه بالطاعة إلى الباري جل وعلا)، فساق الحديث، ثم قال: «الله أجل وأعلى من أن ينسب إليه شيء من صفات المخلوق؛ إذ ليس كمثله شيء، وهذه ألفاظ خرجت من ألفاظ التعارف على حسب ما يتعارفه الناس مما بينهم...، ومن تقرب إلى الباري جل وعلا بقدر شبر من الطاعات كان وجود الرأفة والرحمة من الرب منه له أقرب بذراع، ومن تقرب إلى مولاه جل وعلا بقدر ذراع من الطاعات كانت المغفرة منه له أقرب بباع، ومن أتى في أنواع الطاعات بالسرعة كالمشي أتته أنواع الوسائل ووجود الرأفة والرحمة والمغفرة بالسرعة كالهرولة والله أعلى وأجل»([10]).
ـ وقال أبو بكر البزار بعد أن ساق الحديث في مسنده: «ومعنى هذا الحديث؛ يقول الله تبارك وتعالى: إذا تقرب العبد مني شبرا من الطاعة تقربت منه ذراعا من القبول، فإذا تقرب ذراعا تقربت باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة يقول: قبلت منه»([11])، ففسر الهرولة بالإسراع في القبول.
ـ وقال أبو الحسين البغوي في شرح السنة بعد سَوْق الحديث: «روي عن الأعمش في تفسيره قال: تقربت منه ذراعا، يعني: بالمغفرة والرحمة، وكذلك قال بعض أهل العلم: إن معناه: إذا تقرب إلي العبد بطاعتي واتباع أمري، تتسارع إليه مغفرتي ورحمتي»([12]).
ـ وساق الحديث في موضع آخر بلفظ: «وإن أتيتني تمشي، أتيتك أهرول»، ثم قال: «قال قتادة: والله أسرع بالمغفرة»([13])، وهذا تأويل واضح من قتادة للفظ (الهرولة) بالإسراع بالمغفرة.
ـ وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: «هذا الحديث من أحاديث الصفات، ويستحيل إرادة ظاهرة...، ومعناه: من تقرب إلي بطاعتي تقربت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة، وإن زاد زدت، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولة؛ أي صببت عليه الرحمة وسبقته بها، ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد: أن جزاءَه يكون تضعيفُه على حسب تقربه»([14]).
وعلى هذا النحو أول الحديثَ أئمةٌ آخرون كُثُر؛ كالخطابي كما حكاه عنه البيهقي في الأسماء والصفات، وابن بطال في شرح البخاري، والقاضي عياض في مشارق الأنوار، والعراقي في طرح التثريب، والباجي في المنتقى، والعيني في عمدة القاري، والمناوي في فيض القدير، وكذا نقله ابن حجر في الفتح عن ابن التين، والراغب الأصفهاني...
وقد استغنيت عن عرض نص كلامهم بما عرض من نصوص غيرهم حتى لا يطول المقال.
وإلى هنا ينتهي المراد والمقصود من المقالة.
والله من وراء القصد.
[1] صحيح البخاري، رقم (7405).
[2] ابن بطال، "شرح صحيح البخارى"، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، ط. مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة.2، (1423هـ/2003م).
[3] الأجوبة المفصلة في إثبات لله صفة الهرولة، ط. مكتبة أهل الحديث، البحرين، الطبعة.1، (1438هـ/2017م)، ص: 8.
[4] نفسه، ص: 11.
[5] السّيوف المسلولة المكلّلة لقطع دابر ربيع المدخليّ لتعطيله لصفة الهرولة، ط. مكتبة أهل الحديث، البحرين، الطبعة.1، (1438هـ/2017م)، غلاف الرسالة.
[6] فتاوى أهل العلم في إثبات صفة الهرولة ط. مكتبة أهل الحديث، البحرين، الطبعة.1، (1438هـ/2017م)، ص: 5.
[7] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين: 1/123-124.
[8] ابن حجر، نقلا عن ابن التين، "فتح الباري": 13/630.
[9] جامع الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، (بلا تاريخ): 5/581.
[10] صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق شعيب الأرناؤوط، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة.2، (1414هـ/1993م): 3/93-100.
[11] البحر الزخار (مسند البزار)، تحقيق: عادل بن سعد، ط. مكتبة العلوم والحكم، المدينة، الطبعة.1، (1426هـ/2005م): 13/411.
[12] شرح السنة، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، ط. المكتب الإسلامي، دمشق ـ بيروت، الطبعة.2، (1403هـ/1983م): 5/26.
[13] نفسه: 5/24.
[14] شرح النووي على مسلم: مجلد 9، ج 17، ص: 6.
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا