أسباب وجذور الانحياز الغربي لـ "إسرائيل"؟
في فكر الدكتور عبد الوهاب المسيري
دراسة تحليلية نقدية
الحلقة 2
عبد الوهاب المسيري ودور اللوبي اليهودي في الانحياز الغربي لـ"إسرائيل"
(The role of the Jewish lobby in the Western bias to "Israel")
بقلم د. الحسين بودميع
الإحصاءات والأرقام المتعلقة بحجم الدعم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي لـ "إسرائيل" من قِبل الغرب وأمريكا التي سبق عرض بعضها في الحلقة 1 قد تقربنا من إدراك حجم الدعم الغربي لـ "إسرائيل" ماليا وعسكريا ودبلوماسيا، ولكنها قد لا تكشف لقارئها سرا بخصوص التبني الغربي للمشروع الصهيوني وانحياز الغرب للكيان الصهيوني؛ فهذا الانحياز لم يكن في يوم من الأيام سرا، إنما الذي يعد لدى الكثير لغزا يحتاج إلى بيان، هو دوافع هذا الانحياز؛ لماذا تنحاز دول الغرب وبالأخص أمريكا إلى "إسرائيل" هذا الانحياز المخجل، المعاكس لكل القيم الإنسانية، والأعراف السوية، والمصادم لمنطق العقل ولمبادئ حقوق الإنسان؟
ألمصالح استراتيجية تجنيها الدول الغربية من هذا الانحياز والدعم؟
أم استجابة لضغوط اللوبي اليهودي المتنفذ في دوائر صنع القرار في الغرب؟
أم أن هناك بواعث لاهوتية والتزامات عقائدية لدى شعوب وقادة الغرب توجب هذا الانحياز؟
ينطلق الدكتور المسيري في الإجابة عن هذا السؤال من دراسة جذور الفكر الصهيوني، وأسباب وظروف نشأته في العالم الغربي، وبيان أن الظاهرة الصهيونية إفراز من إفرازات الحضارة الغربية المادية، وتطبيق من تطبيقات الرؤية المعرفية الإمبريالية، وتجل من تجليات الرغبة التوسعية الاستعمارية النامية في الغرب خلال القرن التاسع عشر.
فكان من الطبيعي أن يذهب –في تفسير الانحياز المذكور- مذهب من يرى أن المصالح الاستراتيجية التي يجنيها الراعي الغربي من تحالفه مع الكيان الصهيوني هو الباعث الحقيقي على انحيازه له.
ولكي يسلم له هذا التفسير، واجه باقي المقولات بالنقد، والتدليل على ضعف مقدرتها التفسيرية؛ خاصة مقولة اللوبي الصهيوني ودوره المفترض في تشكيل السياسة الغربية تجاه الصراع في فلسطين، ومقولة البواعث العقدية للصهيونية الغربية.
أولا: مفهوم اللوبي وآليات عمله
وقد بدأ الدكتور المسيري دراسة فكرة اللوبي ودورها المفترض في تأييد الغرب للكيان الصهيوني بتعريف اللوبي وبيان أصل اشتقاقه؛ فبين أن مصطلح اللوبي (The Lobby): كلمة إنجليزية؛ وتعني البهو والدهليز، أو الردهة الأمامية للمبنى؛ وقد جرت العادة أن تضم مباني المجالس النيابية الغربية في تصميمها الهندسي ردهات كبرى في مداخلها؛ كما هو الشأن في مجلس العموم في إنجلترا، ومجلس الشيوخ في الولايات المتحدة([1])، وفي هذه الردهات يجتمع ذوو النفوذ من غير الأعضاء، لمقابلة النواب من أجل مفاوضتهم على مصالحهم، والضغط عليهم لمراعاتها في التشريع؛ ثم استعمل لفظ (اللوبي) مجازا للتعبير عن جماعات الضغط تلك؛ من باب إطلاق اسم المحل على الحال فيه؛ ثم اشتق منه فعل (To Lobby)، و«يعني أن يحاول شخص ذو نفوذ (يستمده من ثروته أو مكانته أو من كونه يمثل جماعة تشكل مركز قوة) أن يكسب التأييد لمشروع قانون ما، عن طريق مفاوضة أعضاء المجلس التشريعي في ردهته الكبرى، فيعدهم بالأصوات أو بالدعم المالي لحملاتهم الانتخابية، أو بالذيوع الإعلامي إن هم ساندوا مطالبه وساعدوا على تحقيقها، ويهددهم بالحملات ضدهم وبحجب الأصوات عنهم إن هم أحجموا عن ذلك»([2]).
وعليه فيمكن أن يُعَرّف اللوبي بأنه: أفراد أو هيآت ذات نفوذ مالي أو إعلامي أو ديني تمارس بالانفراد أو بالتنسيق ضغطا على المسؤولين وصانعي القرار لحملهم على اتباع سياسات داخلية أو خارجية تساير إرادة الضاغطين.
وإذا كانت جماعات الضغط يهودية الهوية فهي (لوبي يهودي)، وإذا كانت صهيونية الهوى فهي (لوبي صهيوني)؛ والفرق بين (اللوبي اليهودي) و(اللوبي الصهيوني)؛ أن بينهما عموما وخصوصا من وجه؛ فكل منهما أعم من الآخر من وجه وأخص منه من وجه آخر، إذ ليس كل من يمارس الضغط من اليهود صهيونيا، فإن من اليهود من يشكل لوبيات للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية أو حقوقهم المدنية، ولا يهمهم أمر الأيديولوجية الصهيونية في شيء؛ «لأن إسرائيل ليست قضية بارزة وكبرى بنظر عدد كبير منهم؛ ففي مسح تم عام 2004 مثلا، قال نحو (%36) من اليهود الأمريكيين: إنهم ليسوا مرتبطين عاطفيا بإسرائيل»([3])، وليس كل من يمارس الضعظ من الصهاينة يهوديا؛ لأن «اللوبي الصهيوني لا يتكون من عناصر يهودية وحسب، وإنما يضم عناصر غير يهودية أيضاً، وهو يضم كل أصحاب المصالح الاقتصادية الذين يرون أن تفتيت العالم العربي والإسلامي يخدم مصالحهم...، وكثيراً من المحافظين الذين يرون في إسرائيل قاعدة للحضارة الغربية وقاعدة لمصالحها، كما يضم جماعات الأصوليين (الحَرْفيين) ممن يرون في دولة إسرائيل إحدى بشائر الخلاص»([4])، و«يعتقدون بأن ممارسة الضغط على إسرائيل متناقض مع مشيئة الرب»([5]).
فاللوبي اليهودي أو الصهيوني إذن: عدد من الأفراد والهيآت النافذة ماليا أو إعلاميا أو دينيا في المجتمعات الغربية، تسعى للضغط على صانعي القرار في الغرب من أجل كسب التأييد لسياسات دولة "إسرائيل"، وجلب الدعم المالي والعسكري والدبلوماسي لها.
وإذا قيدنا اللوبي بحالة أمريكا؛ فهو ذلك «التحالف الفضفاض الذي يضم أفرادا ومنظمات، يعملون بفعالية ونشاط من أجل صياغة سياسة خارجية أمريكية ذات اتجاه موال لإسرائيل»([6]).
وقد أسس اللوبي اليهودي منظمات خاصة للتصدي لنقد إسرائيل، وتأييد المشروع الصهيوني؛ منها:
· منظمة الآيباك (AIPAC) وهذا اختزال مؤلف من الحروف الأولى لمفردات اسمها باللغة الإنجليزية: (American Israel Public Relations Committee)؛ أي: اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة. و«هي منظمة أمريكية يهودية تأسَّست عام 1954، بغرض التأثير في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط بحيث تتفق هذه السياسة مع المصالح الإسرائيلية والصهيونية»([7]).
· منظمة(LICRA) ، وهي الحروف الأولى من مفردات اسم المنظمة باللغة الفرنسية
(Ligue internationale contre le racisme et l'antisémitisme)؛ أي الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية.
· وعصبة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League)، ومقرها في الولايات المتحدة.
ويتوجه ضغط اللوبي أساسا إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية.
ومن أجل كسب الرأي العام والتأييد الشعبي يسعى اللوبي الصهيوني «للتأثير في وسائل الإعلام وفي مراكز البحث وفي المعاهد الأكاديمية؛ لأن هذه المؤسسات تضطلع بأدوار حاسمة في تشكل الرأي الشعبي االعام»([8])، كما يسعى لتحقيق نفس الهدف «عن طريق مشروعات متعددة؛ تتراوح بين إنشاء المدارس التي تعلِّم العبرية، وإنشاء المستشفيات، وإنتاج الأفلام الموالية لإسرائيل، وتمويل رحلات الباحثين والسياسيين الأمريكيين إلى إسرائيل»([9]).
وتعد أداة التهمة بمعاداة السامية السيف الرادع الذي يشهره اللوبي في وجه «كل من ينتقد أفعال إسرائيل، أو يبوح بأن للجماعات الموالية لإسراائيل نفوذا كبيرا...؛ لأن اللاسامية [في المجتمع الغربي] ظاهرة كريهة، وما من شخص يتحلى بالمسؤولية يرضى بمثل هذه التهمة»([10]).
كما يُوظِّف آلية التصويت العقابي ضد النواب غير الراضين عن السياسات الموالية لـ"إسرائيل"، وضد الرؤساء غير المتحمسين للمشروع الصهيوني، بصرف أصوات الأنصار عنهم، والدعم المالي لهم في الانتخابات.
فهذا السيناتور الأمريكي «(شاوس بيرسي) فقد مقعده في البرلمان، لأنه دعم تزويد الدول العربية بالسلاح، و(ديك كروسكي) أيضاً كان منتقداً لإسرائيل،.. [مما] كلفه خسارة مقعده»([11]).
وتعرض السيناتور فولبرايت رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ في بداية السبعينات للمصير نفسه؛ لأنه كشف في مقابلة تلفزيونية عن تأثير اللوبي في مواقف أعضاء المجلس([12]).
وسألت الكاتبة الأمريكية جريس هالسل (بول فندلي) العضو الجمهوري السابق في لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس: «لماذا خسر هو بالتحديد مقعده في الكونغرس؟ فأجاب: لقد دعوت إلى معالجة متوازنة لمشكلة الشرق الأوسط، غير أن اللوبي الإسرائيلي فسر أقوالي.. بأنها انتقاد لإسرائيل..؛ لقد قدمت 31 لجنة سياسية يهودية لخصمي السياسي الذي يكاد لا يُعرَف (104,325 دولاراً).. أستطيع أن أقول بثقة: إنه لو رفع اللوبي الإسرائيلي يده عني لربحت الانتخابات»([13]).
و تلجأ جماعات الضغط كذلك إلى أسلوب الاحتجاج عبر توجيه رسائل مكتوبة للجهات المسؤولة، أو للأشخاص المنتقدين للفكر الصهيوني ولسياسات وأفعال "إسرائيل"؛ تتضمن استنكارا للانتقاد أو تهديدا بالانتقام؛ مثل ما كانت بعض الجماعات اليهودية المتطرفة تصنع مع الدكتور عبد الوهاب المسيري نفسه، حين كان يعد الموسوعة، «حيث أمطرته سيلاً من رسائل التهديد بالتصفية...، [وفي آخرها]: "نعلم بوصلك وقد أعددنا لك قبراً"»([14]).
و«قال أحد تنفيذيي السي. إن. إن: إنه يتلقى أحيانا 6000 رسالة إلكترونية شاكية من أن إحدى المواد [الإعلامية] معادية لإسرائيل في يوم واحد»([15]).
وبعد العدوان "الإسرائيلي" على لبنان عام 1982م، نشر روجي جارودي وزميلان له بيانا في جريدة لوموند الفرنسية برهنوا فيه «على أن هذا العدوان ليس مجرد هفوة عابرة، ولكنه جزء لا يتجزأ من نهج الصهيونية السياسية التي قامت على أساسها دولة إسرائيل»([16])، وكانت النتيجة ما حكاه جارودي في قوله: «وفي أعقاب النشر، تلقيت تهديدات بالقتل من خلال مكالمات هاتفية، ورسائل غفل من التوقيع، كما أقامت (الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية) دعوى قضائية ضدنا، حيث اتهمتنا بمعاداة السامية والتحريض على التمييز العنصري»([17]).
ونتيجة لمواقف جارودي المنتقدة للصهيونية، قال أحد كبار الناشرين لمجلس إدارته: «إذا نشرتم أي كتاب لجارودي، فلن تحصلوا على حق ترجمة أي كتاب أمريكي فيما بعد»([18]).
وهكذا فإن «كل من يقدم على انتقاد سياسة إسرائيل يجد نفسه عرضة لأعمال انتقامية شديدة، ودائمة، بل وقد يفقد مصدر عيشه نتيجة ضغوط قوى النفوذ الإسرائيلية»([19]).
ثانيا: هل اللوبي الصهيوني وراء الانحياز الغربي لـ "إسرائيل"؟
يرفض الدكتور المسيري الرأي الشائع في بعض الأوساط المثقفة في الغرب، وفي كثير من الأدبيات العربية؛ من أن اللوبي اليهودي والصهيوني هو الذي يقف وراء الانحياز الغربي لـ "إسرائيل"، بدعوى ما لجماعات الضعط الصهيونية من نفوذ في دوائر صنع القرار في الدول الغربية الكبرى، وبالأخص في أمريكا.
ويقرر في البدء أن أصحاب هذا الطرح يفترضون أن علاقة الغرب بـ"إسرائيل" علاقة عارضة، يفرضها ضغط اللوبي الصهيوني، وأن الدول الغربية لا تتصرف بإرادتها إزاء "إسرائيل" بما تمليه مصالحها الاستراتيجية، بل وفق إرادة الدولة الصهيونية المتجسدة في أنشطة جماعات الضغط التابعة والموالية لها، ومن ثم فبقاء الانحياز الغربي لـ "إسرائيل" رهين ببقاء اللوبي واستمرار نفوذه في الغرب، ويرون أن العرب والمسلمين لو استطاعوا أن يشكلوا في الغرب (لوبيا عربيا) أو (لوبيا إسلاميا) قويا منافسا للوبي الصهيوني، لتمكنوا من تغيير السياسة الغربية تجاه "الشرق الأوسط"، والصراع في فلسطين، وربما كسبوا المعركة؛ فمن الممكن في أمريكا مثلا «أن يصبح يوما ما للناخبين العرب .. تأثير على السياسة الأمريكية أكثر من اليهـود، [إذ] يعتبر المسلمون أمريكيين أكثــر [يعني أكثر ولاء لأمريكا] من اليهود الأمريكيين، ويعتبر الإسلام إحدى أكثر الديانات سرعة في الانتشار في الولايات المتحدة»([20]).
ويبين المسيري أن من يتبنى هذا الطرح يصدر عن خلفية التفسير التآمري لأحداث التاريخ، الذي يعزو جل أحداث الصراع في التاريخ إلى التآمر بين قوى خفية، تخطط في السر للإيقاع بمناوئيها، وتجند الضعاف من صفوف الغير لخدمة مصالحها، ولعل من أبرز تجليات التفسير التآمري: الاعتقاد بأن لليهود تنظيما عالميا يخطط في الخفاء «لإقامة إمبراطورية عالمية تخضع لسلطان اليهود، وتديرها حكومة عالمية يكون مقرها القدس»([21])، وأنهم وضعوا لتحقيق هذا الهدف خطة عملية محكمة، أودعوها فيما يسمى: (بروتوكولات حكماء صهيون)([22])، فكان تشكيل اللوبي تنفيذا لبعض بنود البروتوكولات؛ فإن «اليهود حسب رؤية البروتوكولات، يسيطرون على الصحافة وعلى دور النشر وعلى سائر وسائل الإعلام .. حتى لا يتسرب إلى الرأي العام العالمي إلا ما يريدونه، كما يسيطرون على الدول الاستعمارية، حتى يمكن تسخيرها لصالحهم وحسب أهوائهم»([23])، بل إن هذه «الرؤية التآمرية ... تجعل اليهود مسئولين عن كل شيء، وتجعل الغرب ضحية للتلاعب اليهودي الصهيوني»([24]).
وهذا النمط من التفكير قد يلقى ترحيبا في الدوائر الصهيونية؛ لما يحمله من تضخيم للدور اليهودي في توجيه السياسة الدولية، وتصوير لليهود على أنهم قوة لا تقهر، وأن نواصي جميع الدول بأيديهم؛ ومن ثم فلا جدوى من مغالبتهم، ولا أمل في التحرر من سطوتهم.
ما علينا، المقصود أن من يؤمن برؤية البروتوكولات هذه، لا بد وأن يفسر السياسات الغربية تجاه الشرق الأوسط، ومنها الانحياز لـ "إسرائيل" بالسيطرة اليهودية، ونفوذ اللوبي اليهودي في الغرب.
ويتبنى هذه المقولة ثلة من الكتاب السياسيين والباحثين الأكاديميين الغربيين والأمريكيين بالخصوص؛ مثل الباحث وليم غي كار؛ الذي حاول في كتابه (أحجار على رقعة الشطرنج) أن يسلط الضوء على ما سماه "المؤامرة اليهودية للسيطرة على العالم"، وأكد فيه أن اليهود الذين سماهم "جماعة المرابين العالميين" هم الذين عملوا على «إجبار بريطانيا وفرنسا ثم أمريكا على قبول ودعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين»([25])، وكذا السيناتور الأمريكي بول فندلي، الذي بسط الحديث انطلاقا من تجربته في مجلس الشيوخ عن نفوذ اللوبي الموالي لـ "إسرائيل"، ودوره في توجيه السياسة الأمريكية في كتابه المشهور: "من يجرؤ على الكلام؟"، حيث أكد أن اللوبي الموالي لـ "إسرائيل" في أمريكا «يسيطر على الكونجرس، ومجلس الشيوخ، ومؤسسة الرئاسة، ووزارة الخارجية، ووزارة الدفاع (البانتجون)، كما يسيطر على وسائل الإعلام، ويمتد تأثيره إلى الجامعات والكنائس»([26])، وأن «تأثير رئيس وزراء إسرائيل على السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط يفوق بكثير تأثيره في بلاده ذاتها»([27]).
وبعد عشرين عاما من صدور كتاب فندلي، ظهر من يطرح التساؤل من جديد عن صعوبة نقد إسرائيل وتبعاته في الغرب، لكن هذه المرة في فرنسا، حيث أصدر الباحث الإستراتيجي الفرنسي (باسكال بونيفاس) صيف 2003 كتاب "من يجرؤ على نقد إسرائيل"، ليدلل على استمرار بل استفحال دور اللوبي الموالي لـ"إسرائيل" في إسكات الأصوات الناقدة للسياسات الصهيونية، وصاغ المدخل الإشكالي للبحث في شكل مفارقة عجيبة تتجلى في أمرين:
أولهما: أن الحكومة "الإسرائيلية" تتعرض لنقد لاذع من قبل المعارضة السياسية والثقافية والدينية داخل "إسرائيل"، دون أن ينال الناقدَ أيُّ أذى، «لكن خارج هذا البلد (إسرائيل)، ينبغي على المرء، ولا سيما في فرنسا أن يتوخى الحذر فيما يقوله بشأن إسرائيل»([28])، وإلا عرض نفسه للتضييق والتهديد بالانتقام.
ثانيهما: أن الناقد في أي دولة غربية يستطيع أن ينتقد حكومة دولته ونظامها السياسي، وسياساتها الخارجية، وينعت رئيسها ورئيس وزرائها بأقذع الصفات، دون أن يشعر بأدنى ملاحقة أو تضييق، ولكن لو فكر في توجيه نقد لـ"إسرائيل"، فسوف تلاحقه تهم العنصرية ومعاداة السامية في كل مكان؛ ففي فرنسا مثلا، «يستطيع المرء أن يمارس النقد ضد الحكومة الفرنسية، وضد دستور فرنسا، وأن يتهم رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء، وينعتهما بأفظع النعوت، دون أن يتعرض لأي أذى...، لكن.. إذا سمحت لنفسك بالتشكيك في سياسة آرييل شارون، ستتهم على الفور بالعداء للسامية»([29]).
وممن تبنى هذه المقولة أيضا: السيناتور ديفيد ديوك، الذي كشف عن النفوذ اليهودي في دوائر الحكم الأمريكي، في كتابه عن الأعراق البشرية، الذي ترجم جزء منه بعنوان: "الصحوة: النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية".
وإبرازا لهذا الموقف عمدت الكاتبة الأمريكية (لي أوبرين) في كتابها "المنظمات اليهودية الأمريكية ونشاطاتها في دعم إسرائيل" إلى رصد أنشطة المنظمات اليهودية في أمريكا ودورها في تأييد "إسرائيل"، وهي تعد بالعشرات، ولكنها اقتصرت على دراسة 32 منظمة منها؛ لأن «قيود الزمن وحجم الدراسة فرضت .. الاقتصار على أشهر تلك المنظمات، وأكثرها نشاطا وأشدها تمثيلا»([30])؛ وجاءت دراستها جوابا عن إشكال طرحته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في تقديمها للكتاب، وهو كيف تمكنت الأقلية اليهودية في أمريكا على ضآلتها (2%، أو2,5% من مجموع السكان) من توجيه السياسة الأمريكية لصالح "إسرائيل"؟
ويعد الأكاديميان الأمريكيان: جون ميرشايمر، وستفن والت، من أبرز من تصدى لنقد اللوبي "الإسرائيلي" ودوره في صياغة السياسة الخارجية لأمريكا في كتابهما: "أمريكا المختطفة: اللوبي الإسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية"، فقد توصلا فيه إلى أن ذريعتي المصالح الإستراتيجية، والالتزام "الأخلاقي" تجاه "إسرائيل" لا يمكن أن يفسرا الانحياز الأمريكي اللامحدود للدولة الصهيونية، وإنما «يكمن التفسير في النفوذ الاستثنائي للوبي الإسرائيلي، فلولا قدرة هذا اللوبي على توظيف النظام السياسي الأمريكي لبقيت العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة أقل حميمية بما لا يقاس مما هي عليه اليوم»([31]).
وقد تبعهما الكاتب جايمس بتراس مناصرا أطروحتهما، وناقدا لمن رد عليهما في كتابه: "سطوة إسرائيل في الولايات المتحدة".
وتبنى هذه المقولة أيضا الفيلسوف الفرنسي روجي جارودي ، فكتب في الباب الثالث والأخير من كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" عن نفوذ اللوبي "الإسرائيلي" في كل من الولايات المتحدة وفرنسا، وقرر فيه أن الصهيونية استطاعت عبر ما أسماه "الأساطير" أو "الخرافات" «أن تبعث في نفوس ملايين الناس ذوي النوايا الطيبة عقائد يصعب اقتلاعها عن طريق تشكيل "جماعات ضغط" بالغة القوة، بوسعها أن تغير مجرى نشاط الساسة، وأن تتحكم في الرأي العام»([32]).
وحكى عن الجنرال شارل ديجول أن «في فرنسا جماعة ضغط قوية موالية لإسرائيل، وهي تمارس نفوذها في وسائل الإعلام»([33]).
ومن أجل ذلك لم يكن «من مرشح للرئاسة الفرنسية .. إلا ذهب إلى إسرائيل ملتمسا الدعم الإعلامي»([34]).
ويصب في نفس الاتجاه كتاب: "قوة اليهود في أمريكا" لمؤلفه جوناثان جولد بيرج، وكتاب: "اليهود والمشهد الأميركي الجديد" لمؤلفيه: سيمور مارتن لبسيت، وإيرل راب، ومنه استلهم الإعلامي أحمد منصور فكرة كتابه (النفوذ اليهودي في الإدارة الأمريكية)، وتبنى الفكرة أيضا فؤاد بن سيد عبد الرحمن الرفاعي، في كتابه: "النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية"، الذي استمد مادته كما قال في أوله من كتابي: "السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام العالمية" لزياد أبو غنيمة، و" جذور البلاء"، لعبد الله التل.
ومن المستندات التي يستند إليها أنصار هذه الأطروحة في تأييدها:
- وقائع تؤكد تأثير اللوبي اليهودي في مواقف المسؤولين الغربيين؛ ومن أمثلتها:
ثانيا: وفي عام 1958، كلف مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية رئيسه (كلوتزنيك) بالاتصال بكنيدي، على اعتبار أنه المرشح المحتمل للرئاسة الأمريكية، وخلال اللقاء، قال له (كلوتزنيك) بكل صراحة: «إذا قلت ما يتعين عليك قوله، فبوسعك الاعتماد علي، وإلا فلن أكون الوحيد الذي يدير لك ظهره»([37])، فرضخ كنيدي، و«كانت حصيلة ما ظفر به نصف مليون دولار لتمويل حملته الانتخابية، و(كلوتزنيك) مستشارا له، و(80%) من أصوات اليهود، وخلال اللقاء الأول بين (كنيدي) و(ابن جوريون).. عام 1961، قال (كنيدي): "أعلم جيدا أني انتُخِبت بفضل أصوات اليهود الأمريكيين، وأنا مدين لهم بانتخابي، فقل لي: ما الذي ينبغي علي أن أفعله من أجل الشعب اليهودي"»([38]).
ثالثا: تصريحات لمسؤولين "إسرائيليين" وغربيين، بسيطرة اللوبي اليهودي على صناعة السياسة الخارجية للدول الكبرى؛ كقول «أرييل شارون ذات مرة متفاخرا بمدى تأثيره في الرئيس بوش: (الولايات المتحدة تحت سيطرتنا)»([39]).
وقول رئيس وزراء بريطانيا الأسبق (كليمنت إتلي): «لقد شكلت أصوات اليهود والمساعدات المالية التي قدمتها عدة شركات يهودية كبرى ملامح السياسة الأمريكية في فلسطين»([40]).
رابعا: أن ثمة مجموعة من المقدمات المنطقية المعقولة؛ تفضي إلى أن سياسة أمريكا مثلا في "الشرق الأوسط" لا تحكمها اعتبارات مصلحية إستراتيجية، وإنما تحركها جماعات الضغط الموالية لـ "إسرائيل"؛ «فنحن إذا حكَّمنا العقل .. توصلنا إلى أنه ليس من صالح الولايات المتحدة الأمريكية أن تدخل في معركة مع الشعب العربي، بل من صالحها أن تتعاون معه في كل المجالات الممكنة، لأن مثل هذا التعاون سيؤدي إلى استقرار المنطقة العربية وسيعود على الولايات المتحدة بالفائدة. ولكن الولايات المتحدة؛ هذا البلد العقلاني الذي تحكمه معايير عملية عقلانية مادية باردة، لا تسلك حسب هذه المعايير المعقولة البدهية، فهي تتمادى في تأييد إسرائيل وتقف وراءها بكل قوة، وتستجلب على نفسها عداء العرب. مثل هذا الوضع شاذ وغير عقلاني لا يمكن تفسيره إلا بافتراض وجود قوة خارجية، ذات مقدرة ضخمة، قادرة على أن تضغط على الولايات المتحدة بحيث تتصرف، لا بحسب ما تمليه عليها مصالحها الموضوعية، وإنما حسبما تمليه عليها مصالح هذه القوة، أي المصالح اليهودية والصهيونية والإسرائيلية التي يمثلها اللوبي اليهودي والصهيوني»([41]).
وهكذا يتضح من تتبع الوقائع أن للوبي اليهودي دورا لا ينكر في صياغة سياسة الغرب حيال الصراع في فلسطين، وهو ما اعترف به المسيري؛ فقال: «ولا يستطيع أي دارس أن ينكر قوة اللوبي الذاتية»([42]).
ولكن ثمة اعتراضات أوردها الدكتور المسيري وغيره على هذا الطرح تعزز الاعتقاد بأن ضغط اللوبي اليهودي ليس هو العامل الحاسم في الانحياز الغربي لـ "إسرائيل"، ومن هذه الاعتراضات:
- أن الدعوة إلى توطين اليهود في فلسطين، وهو الهدف الأسمى للصهيونية السياسية، ظهرت بين المسيحيين قبل زمن طويل من ولادة الحركة الصهيونية اليهودية التي انبثق عنها اللوبي اليهودي؛ فالشعار الصهيوني المعروف (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) صاغه غير اليهود؛ إذ قد طرحه سياسيون ورجال دين بريطانيون على مؤتمر لندن سنة 1840م([43])،«حيث كان من البنود المقترحة على جدول أعمال المؤتمر بند يتعلق بإمكانية إنشاء دولة يهودية في فلسطين»([44]).
وما كان ذلك ليكون بضغط من اللوبي اليهودي الذي لم يولد إلا بعد قرن من هذا المؤتمر.
و«هناك عدد كبير من رؤساء الجمهورية في الولايات المتحدة ممن دعوا لإنشاء دولة يهودية في فلسطين، حتى قبل أن توجد جماعة يهودية ذات وزن من الناحية العددية والنوعية في أمريكا..[كـ] الرئيس جاكسون»([45]).
وفي عام 1887، أسس القس (وليم بلاكستون) في شيكاغو منظمة (البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل) بهدف حث اليهود على الهجرة إلى فلسطين([46])؛ فالحماس للفكرة الصهيونية إذا أمر ذاتي لدى الغربيين، وليس انعكاسا للرضوخ لضغوط اللوبي الإسرائيلي.
- أن الرئيس الأمريكي (هاري ترومان) سارع إلى الاعتراف بـ "إسرائيل" فور قيامها، «حتى قبل أن تطلب منه ذلك حكومة إسرائيل.. ولم يكن هذا الموقف الأمريكي بقصد كسب أصوات يهودية، أو نتيجة ضغط اللوبي الصهيوني الذي لم يكن قد ولد بعد»([47])؛ بل كان هذا الموقف «متماشيا كليا مع مشاعره الشخصية التي كانت صهيونية...، فخلفيته المعمدانية وتربيته كانتا تركزان على عودة اليهود إلى صهيون»([48]).
- أن المسار التاريخي للعلاقة بين الطرفين يثبت تبعية "إسرائيل" الكاملة للغرب؛ خلافا لما يفترضه ويروج له أنصار مقولة سيطرة اللوبي اليهودي والصهيوني من أن الحكومات الغربية ألعوبة في يد "إسرائيل"؛ فالتاريخ أثبت أن "إسرائيل" ليس بإمكانها «أن تشن أي حرب، أو تدخل أي مغامرة عسكرية، إلا بموافقة الولايات المتحدة التي تمدها بالسلاح والدعم والمظلة الأمنية»([49])؛ ما يعني أن أمريكا هي التي تتحكم في السياسة الإسرائيلية وليس العكس.
ومن الحوادث التي تثبت هذه التبعية:
أ- رد فعل أمريكا على العدوان الثلاثي على مصر؛ فبعد أن شنت "إسرائيل" مع إنجلترا وفرنسا عام 1956 العدوان، دون موافقة وإذن أمريكا، «عوقبت أشد العقاب، إذ أن الإستراتيجية الأمريكية حينذاك كانت أنْ تلعب الإمبريالية الأمريكية دوراً نشيطاً في الشرق الأوسط وتحل محل الاستعمار التقليدي (الإنجليزي والفرنسي)...، والدولة الصهيونية باشتراكها في هذه المغامرة وقفت ضد المخطط الأمريكي ولذا كان من الضروري تأديبها»([50]).
ب- لم تدخل الدولة الصهيونية حرب عام 1967 مع مصر «إلا بموافقة صريحة من الولايات المتحدة التي وجدت أن من صالحها تصفية حكم عبد الناصر آنذاك»([51]).
ج- كان رد أمريكا حاسماً على حادثة جوناثان بولارد؛ وهو موظف أمريكي يهودي تجسَّس على الولايات المتحدة لحساب إسرائيل؛ «إذ قُبض على بولارد وأُدخل السجن لمدة عشرين عاماً وأُجري تحقيق في إسرائيل لتحديد المسئولية...، ولو حدث شيء مماثل في أي بلد آخر لاتُهم هذا البلد على الفور بأنه معاد لليهود، ولكن الإعلام الصهيوني لزم الصمت؛ لأن الجميع يعرف أن هذا هو الخط الذي لا يستطيع أحد عبوره، فهو خط إستراتيجي أحمر راسخ واضح»([52]).
د- كانت المؤسسة الحاكمة الصهيونية حريصة كل الحرص على إنتاج طائرة اللافي محلياً في "إسرائيل" (بعون أمريكي)...، «ولكن المؤسسة الصناعية العسكرية في الولايات المتحدة وجدت أنه ليس من صالحها السماح لإسرائيل بإنتاج اللافي فأُلغي المشروع رغم المحاولات اليائسة والمريرة لمدة عامين، ولم ينجح اللوبي الصهيوني أو غيره في أن يؤثر على القرار الأمريكي»([53]).
هـ- أثناء حرب الخليج أمرت أمريكا الدولة الصهيونية بأن لا تتدخل في الحرب، وأن تلزم القوات الإسرائيلية ثكناتها، وأن تتلقى صواريخ صدام دون أن تحرك ساكناً، فانصاعت الدولة الصهيونية لهذه الأوامر، وللحفاظ على ماء الوجه سُمِّي هذا الانصياع إعلاميا "ضبط النفس"؛ فكان ذلك دليلا لا يتطرق إليه الشك على «أن الدولة الصهيونية تتحرك داخل إطار المصالح الإستراتيجية الغربية وليس داخل إطار المصالح اليهودية أو الصهيونية الوهمية»([54]).
و- أن العلاقة بين الدولة الصهيونية والولايات المتحدة أثناء حكم الرؤساء الجمهوريين (نيكسون، وريجان، وبوش) قد توثقت عراها بشكل مذهل، رغم أن ما بين (70 إلى 80%) من مجمل الأصوات اليهودية ذهبت للديمقراطيين([55]). مما يوضح أن الصوت اليهودي ليس له من تأثير كبير على السياسات الأمريكية تجاه "إسرائيل"، وأن انحياز الإدارة الأمريكية لها لا يكون بالضرورة مكافأة لليهود على أصواتهم.
- يضاف إلى ما عرضه المسيري من الدلائل: أن ثمة دولا منحازة لـ "إسرائيل" انحيازا مطلقا مع انعدام اللوبي اليهودي أو ضآلة تأثيره فيها، ففي أستراليا مثلا لا يزيد عدد اليهود عن (107,000 آلاف)، حسب إحصاءات رسمية "إسرائيلية" لسنة 2010، كما في تقرير معهد تخطيط سياسة الشعب اليهودي (JPPI) بالقدس([56]).، ويعانون مع ذلك من «ظاهرة "موت الشعب اليهودي" وتتزايد بينهم أعداد المسنين»([57])، وأبرز الهيآت التي تمثلهم منظمتا: المجلس التنفيذي ليهود أستراليا (The ECAJ)، والفدرالية الصهيونية في أستراليا (The ZFA)، وهما شديدتا الولاء للصهيونية، ومع ذلك «فإن تأثيرهما ضئيل على سياسة أستراليا تجاه إسرائيل»([58]).
ومع قلة اليهود الأستراليين وضآلة تأثيرهم، فإن أستراليا في طليعة الدول المتطرفة في الانحياز لـ "إسرائيل"، حتى قال (إيزي ليبلر) المحلل "الإسرائيلي" بصحيفة (يسرائيل هايوم) = (إسرائيل اليوم) في استجواب عن رأيه في رئيس وزراء أستراليا (جون هاورد) أجراه معه الصحفي الأسترالي (أنطوني لوينستاين): «إذا حاولْتَ إيجاد ثلاث بلدان متشابهة جدا في رؤيتها للعالم، فسوف تجد إسرائيل وأستراليا، والولايات المتحدة»([59]).
ومن مظاهر التحيز الأسترالي لـ "إسرائيل" ما جاء في قول (ألكسندر داونر) وزير الخارجية في حكومة رئيس الوزراء الأسترالي (جون هاورد) أثناء خطاب أمام الحاضرين في مؤتمر للنداء الإسرائيلي الموحد: «حين نرى قرارا غير متوازن [في الأمم المتحدة] يدين إسرائيل، نصوت ضده، بغض النظر عمن يقف بجانبنا، فأستراليا هي دولة مستقلة ومستقيمة أخلاقيا، وحكومة هاورد هي مؤيد مطلق لإسرائيل»([60]).
وقد صوتت أستراليا فعلا في مناسبات عديدة إلى جانب أمريكا وإسرائيل ضد قرارات أممية مُدينة لهذه الأخيرة، ومن القرارات الأممية التي صوتت ضدها:
1- قرار الأمم المتحدة سنة (2004) إجبار "إسرائيل" على هدم الجدار العازل في الضفة الغربية، وكان بعض الدبلوماسيين قد نصحوا وزير خارجية أستراليا (ألكسندر داونر) بالامتناع عن التصويت، فأجابهم «سوف نصوت ضد هذا القرار، سوف نصوت، حتى لو كنا البلد الوحيد في العالم الذي سيصوت لصالح إسرائيل»([61]).
2- اتهام الأمم المتحدة "إسرائيل" بالعنصرية، في المؤتمر العالمي ضد العنصرية، الذي انعقد في (ديربان) بجنوب إفريقيا سنة (2001)، حيث كان رئيس وزراء أستراليا (جون هاورد) ممن أدان النتيجة التي خلص إليها المؤتمر([62]).
وقال (هاورد) في مقابلة مع الإذاعة الأسترالية المستقلة (AIR): «لطالما كان لدي موقف داعم لإسرائيل بشدة، وشعرت في بعض الأحيان بأن موقف الحكومة السابقة لا يعكس بالكامل حقيقة معظم تاريخ إسرائيل»([63]).
إلى غيرها من المواقف التي تعكس مدى انحياز أستراليا لـ "إسرائيل" مع ضآلة تأثير اللوبي اليهودي في سياستها؛ مما يبرهن على أن هذا التحيز له بواعث أخرى غير الاستجابة لضغوط اللوبي اليهودي.
هذه بعض الدلائل التي تبين أن الانحياز الغربي والأمريكي لـ "إسرائيل" موقف نابع من إرادة ذاتية لدى شعوب وقادة الغرب، وليس رضوخا لضغوط اللوبي اليهودي، وهذا ما أراده الكاتب "الإسرائيلي" (أبراهام فوكسمان)، رئيس (عصبة مكافحة التشهير) في كتابه (الأكاذيب الأكثر قتلا: اللوبي الإسرائيلي وأسطورة التحكم اليهودية)؛ حين أشار «إلى أن التأثير القوي لاتحاد المنظمات اليهودية الأميركية المناصرة للصهيونية (الإيباك) نابع من تعاطف معظم الأميركيين مع إسرائيل وليس من "مؤامرة يهودية ظلامية"»([64]).
وفي هذا الكلام إشارة إلى قضية هامة، وهي أن قوة اللوبي اليهودي في الغرب ليست قوة ذاتية، وإنما يستمد قوته من بيئة شعبية حاضنة، بل إن هذه البيئة أفرزت لوبيات "إسرائيلية" غير يهودية، وتعد أكثر تطرفا في موالاة "إسرائيل"، وأكثر تأثيرا على السياسات الأمريكية من المنظمات الصهيونية اليهودية.
خلاصة القول أن جماعات الضغط الصهيونية مهما تكن طبيعتها وقوتها؛ فإن تأثيرها في صناعة القرار الغربي تجاه الصراع في فلسطين يظل –في تقدير الدكتور المسيري- ثانويا مفضولا أمام تأثير المصالح الاستراتيجية؛ كما سيتبين من المبحث التالي.
[1] المسيري، "الموسوعة الموجزة": 2/320، بتصرف.
[2] نفسه: 2/320-321.
[3] جون شايمر، وستفن والت، المرجع السابق، ص: 56.
[4] المسيري، "الموسوعة الموجزة": 2/321.
[5] جون شايمر، وستفن والت، المرجع السابق، ص: 60.
[6] نفسه، ص: 56.
[7] المسيري، "الموسوعة الموجزة": 2/336.
[8] جون شايمر، وستفن والت، المرجع السابق، ص: 73.
[9] المسيري، المرجع السابق: 2/321.
[10] جون شايمر، وستفن والت، المرجع السابق، ص: 84-85.
[11] بول فيندلي، حوار مع أحمد منصور، ضمن برنامج (بلا حدود)، بث في قناة الجزيرة بتاريخ: 06/03/2002.
[12] روجي جارودي، "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، ترجمة محمد هشام، تقديم حسنين هيكل، ط. دار الشروق، القاهرة، الطبعة.2، (1419هـ/1998)، ص: 276.
[13] جريس هالسل، "النبوءة والسياسة"، ترجمة محمد السماك، ط. دار الشروق، القاهرة، الطبعة.2، (1424هـ/2003م)، ص: 129-130.
[14] د. سعيد شبار، "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، تأليف د. عبد الوهاب المسيري"، مرجع سابق، ص: 175.
[15] جون شايمر، وستفن والت، المرجع السابق، ص: 75.
[16] روجي جارودي، "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، ص: 285.
[17] نفسه، ص: 285.
[18] نفسه، ص: 290.
[19] بول فندلي، "من يجرؤ على الكلام؟" ص: 315، نقلا عن روجي جارودي، المرجع السابق، ص: 282.
[20] أنطوني لوينستاين، "قضيتي ضد إسرائيل"، ترجمة مركزألاء للترجمة، تدقيق: وفيق زيتون، ط. شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، الطبعة.1، (2013)، ص: 212.
[21] عبد الوهاب المسيري،"البروتوكولات واليهودية والصهيونية"، ط. دار الشروق، القاهرة، الطبعة.3، (2003)، ص: 12.
[22] انظر دراسة نقدية للدكتور المسيري تثبت بالأدلة زيف وثيقة "بروتوكولات حكماء صهيون"، في الموسوعة (الموجزة): 1/158، وما بعدها، وفي الفصل الأول من كتاب "البروتوكولات واليهودية والصهيونية"، ص: 11، وما بعدها، وقد جاء في كتاب (كفاحي) للزعيم النازي أدولف هتلر أن كتاب البروتوكولات قد «أنكره اليهود بشدة زائدة»، وأن جريدة (لاكازيت دوفرانكفورت) أكدت «أن البروتوكول مدسوس على اليهود»، ولكن هتلر وهو ممن يدافع على صحة البروتوكولات لكونها تعزز رأيه في اليهود، وتقدم تبريرا لسياساته العدائية ضدهم، علق على ما أوردته جريدة (لاكازيت) بأنه «لا يعدو كونه محاولة تضليل، استمدت الجريدة عناصرها من منجم الكذب اليهودي الذي لا ينضب معينه» كتاب كفاحي، ترجمة لويس الحاج، ط. مطبعة بيسان، بيروت، (1995)، ص: 176، غير أن كلام هتلر محكوم بكرهه الشديد لليهود، وحرصه على إظهارهم بوصفهم خطرا على أوربا، وهو مع ذلك كلام مرسل، لا يملك من وقف على أدلة المسيري المنوه بها أن يصدقه.
ويرى الكاتب اليهودي الأمريكي (جونثان جولد بيرج) - في كتابه "قوة اليهود في أمريكا"، ترجمة نهال الشريف، ط. دار الهلال، القاهرة، الطبعة.1، (1997م)، ص: 23 - فيما يغلب على ظنه- «أن راهبا روسيا معتوها قد زور هذه البروتوكولات نيابة عن البوليس السري في روسيا القيصرية، وألصقها باليهود»، وعلى هذا الافتراض بنى الدكتور المسيري دراسته المنوه بها، وبين أن غرض هذا الراهب هو تشويه الحركات الثورية واللبرالية لدفع خطرها عن النظام القيصري.
[23] عبد الوهاب المسيري، "البروتوكولات واليهودية والصهيونية"، ص: 35، انظر محمد خليفة التونسي، "الخطر اليهودي: بروتوكولات حكماء صهيون" ط. دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة.4، (دون تاريخ)، البروتوكول الثاني، ص: 122، والبروتوكول الثاني عشر، ص: 159.
[24] المسيري،"الموسوعة الموجزة": 2/327.
[25] أحجار على رقعة الشطرنج، ترجمة: سعيد جزائرلي، ط. دار النفائس، بيروت، الطبعة.1، (1970)، ص: 203.
[26] بول فندلي، "من يجرؤ على الكلام؟" ص: 31، عن روجي جارودي، المرجع السابق، ص: 277.
[27] بول فندلي، المرجع نفسه، ص: 92، عن روجي جارودي، المرجع السابق، ص: 255.
[28] باسكال بونيفاس، "من يجرؤ على نقد إسرائيل"، ترجمة أحمد الشيخ، ط. دار الفرابي، بيروت، والمركز العربي للدراسات الغربية، القاهرة، الطبعة.1، (2004)، ص: 17.
[29] نفسه، ص: 17-19.
[30] المنظمات اليهودية الأمريكية و نشاطاتها في دعم إسرائيل، ترجمة جماعة من الأساتذة بإشراف ومراجعة الدكتور محمود زايد، ط. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، الطبعة.1، (1986م)، ص: 1.
[31] جون شايمر، وستفن والت، المرجع السابق، ص: 55.
[32] روجي جارودي، المرجع السابق، ص: 255.
[33] نفسه، ص: 283.
[34] نفسه، ص: 283.
[35] نفسه، ص: 276.
[36] نفسه، ص: 277.
[37] نفسه، ص: 259-260.
[38] نفسه، ص: 260.
[39] جايمس بتراس، "سطوة إسرائيل في الولايات المتحدة"، ص: 13.
[40] كليمنت إتلي، "مذكرات رئيس وزراء"، الناشر: هانيمان، لندن، (1961)، ص: 181، عن روجي جارودي، المرجع السابق، ص: 259.
[41] المسيري، "الموسوعة الموجزة": 2/321.
[42] نفسه: 2/324.
[43] بعد معركة نصيبين عام 1839، التي انتهت بهزيمة العثمانيين أمام محمد علي، واستيلاء مصر على أراضي الشام والأسطول العثماني، بادرت بريطانيا إلى عقد مؤتمر في لندن بتاريخ (15 يوليوز 1840م) حضره ممثلون عن روسيا والنمسا والسلطان العثماني، تم الاتفاق فيه على أن يحكم محمد علي مصر حكما وراثيا، وأن تبقى ولاية عكا تحت حكمه مدى حياته، نظير أن يعيد الأسطول العثماني، ويرد باقي الأراضي التي استولى عليها في الشام إلى الدولة العثمانية خلال عشرة أيام، وخلال هذا المؤتمر طرحت المسألة اليهودية، وتقدم من تقدم باقتراح تمكين اليهود باعتبارهم شعبا بلا أرض من إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين باعتبارها أرضا بلا شعب، محمد صبري، "تاريخ مصر الحديث من محمد علي إلى اليوم"، ط. دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة.1، (1926)، ص: 66، وعبد الوهاب المسيري، المرجع السابق: 2/234.
[44] أمين عبد الله محمود، "مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى"، سلسلة عالم المعرفة، العدد 74، ص: 50.
[45] المسيري، "الموسوعة": 6/351.
[46] يوسف الحسن، "جذور الانحياز: دراسة في تأثير الأصولية المسيحية في السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية"، ط. مركز الإمارات للبحوث والدراسات الإستراتيجية، أبوظبي، ط.1، (2002م)، ص: 4.
[47] نفسه، ص: 5.
[48] ريجينا الشريف، "الصهيونية غير اليهودية: جذورها في التاريخ الغربي"، ترجمة: أحمد عبد الله عبد العزيز، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد (96)، ربيع.1، 1396هـ، الموافق ديسمبر 1985م، ص: 214.
[49] المسيري، "الموسوعة": 6/352.
[50] نفسه: 6/351.
[51] الموسوعة الموجزة: 2/325.
[52] نفسه.
[53] نفسه.
[54] نفسه.
[55] نفسه.
[56] The Jewish People Policy Institute (JPPI). «Jewish demographic Policies Population Trends and Options in "Israel" and in the Diaspora».p:67.
[57] عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق: 1/485.
[58]أنطوني لوينستاين، "قضيتي ضد إسرائيل"، ص: 265.
[59] نفسه، ص: 275.
[60] نفسه، ص: 273.
[61] نفسه، ص: 273-274.
[62] نفسه، ص: 273.
[63] نفسه، ص: 272.
[64] وديع عواودة، "كتاب إسرائيلي ينكر حقيقة اللوبي الصهيوني في واشنطن"، مقال منشور بموقع: www.aljazeera.net
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا