أسباب وجذور الانحياز الغربي لـ "إسرائيل"؟
الحلقة 3
عبد الوهاب المسيري و البعد الإستراتيجي
للانحياز الغربي لـ "إسرائيل"
(The strategic dimension of the Western bias to "Israel")
بقلم د. الحسين بودميع
بعد أن دلل الدكتور المسيري على ضعف المقدرة التفسيرية لمقولة تأثير اللوبي الصهيوني في قرارات الدول الغربية وسياساتها إزاء الصراع في الشرق الأوسط؛ عرض الأطروحة التي يراها قادرة على تفسير السياسة الغربية المذكورة؛ وخلاصتها: أن انحياز الغرب - وخاصة أمريكا - لـ "إسرائيل"، ودعمه لها ماليا وعسكريا ودبلوماسيا، ناجم عما لها من أهمية إستراتيجية عنده، تتمثل إجمالا في كونها «قاعــدة عسكرية وحضاريـة وأمنية للغرب»([1])، وأكد «أن المصالح الإستراتيجية الغربيـة (الأمريكية ..)، هي التي تحدد القرار الأمريكي، وأن الضغوط الصهيونية ـ من خلال اللوبي أو الإعلام ـ ذات أهمية ثانوية»([2]).
وقد تبنى هذا الطرح انطلاقا من نظريته التحليلية إزاء أسباب نشوء الصهيونية وقيام دولة "إسرائيل"، ويختزل نظريتَه مصطلحا (الجماعات الوظيفية) و(الدولة الوظيفية)، المشيرين إلى أن الإمبريالية الغربية رغبة منها في التخلص من الجماعات الوظيفية اليهودية التي فقدت وظيفتها في أوربا مع حلول عصر النهضة، وتحولت إلى "فائض بشري غير نافع"، عن طريق نقلها خارج أوربا لتحويلها إلى مادة بشرية نافعة؛ عملت على إنشاء حركة منظمة، تتولى مهمة نقل وتوظيف هذا الفائض "البشري" في جيب استيطاني يُشكِّل قاعدة للاستعمار الغربي في فلسطين، وبخاصة مع تَوقُّع سقوط الدولة العثمانية وصعود نجم محمد علي، ثُم تحويله بعد ذلك إلى (دولة وظيفية) «تقوم على خدمة المصالح الغربية في المنطقة»([3])؛ بحيث تشكل «قاعدة للاستعمار الغربي، وتتعهد .. بتحقيق مطالب الغرب ذات الطابع الإستراتيجي ومنها الحفاظ على تَفتُّت المنطقة العربية»([4])، مقابل تعهد الغرب بدعم المشروع الصهيوني وحماية أمن الدولة الوظيفية التي ستتمخض عنه، ودعمها سياسيا واقتصاديا وعسكريا([5]).
وعلى رأي المسيري هذا المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي؛ الذي يعتبر «إسرائيل دولة عميلة للولايات المتحدة»([6])، ويرى أنها «مجرد أداة لبناء الإمبراطورية الأمريكية، تستخدم عند الحاجة، وإلا لتعرضت للتهميش، [وأن] بيغ أويل [big oil: شركات النفط الكبرى] والمركب العسكري-الصناعي هما القوتان الرئيسيتان اللتان تحددان شكل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط»([7])، ومن ثم فإن هدف «سياسة الولايات المتحدة.. في الشرق الأوسط: السيطرة على النفط، وتقوية الوكلاء الذين يساعدون في الحفاظ عليه»([8])، و"إسرائيل" في مقدمة هؤلاء الوكلاء حسب تشومسكي؛ فقد فسر ما حصل مرة من «تزويد واشنطن إسرائيل بـ 25 طائرة حربية من أكثر الطائرات المقاتلة تقدما.. [بأن] الولايات المتحدة تدعم بذلك دور الشرطي الإسرائيلي في إقليم الشرق الأوسط ... فإن إسرائيل تقوم بدور الوكيل الذي ينوب عن الولايات المتحدة، لتصبح مركزا عسكريا وصناعيا وماليا في نظام إقليمي يربط مصر وتركيا ودول الخليج المنتجة للنفط»([9])، واعتبر اتفاقات أوسلو التي رعتها أمريكا «خطوة مهمة للولايات المتحدة ترسخ فيها مواقعها في غرب آسيا لتكمل تأثيرها على القارة الآسيوية بعد النجاح الذي حققته في إقليم آسيا – المحيط الهادي»([10]).
وممن تبنى هذا الطرح أيضا في تفسير التبني الغربي للمشروع الصهيوني المهندس أحمد عبد الوهاب؛ إذ رأى أن «المخطط الاستعماري تجاه فلسطين العربية، هدفه من قديم زرع جسم يهودي غريب عن المنطقة العربية، يعمل كقاعدة استراتيجية تؤمن مصالح دول الاستعمار في المنطقة»([11]).
ويجد أنصار هذه الأطروحة في تصريحات بعض الزعماء الصهاينة والغربيين التي تصب في هذا الاتجاه مستندا لتعزيز أطروحتهم هذه؛ ومن أوضحها، ما جاء في خطاب لناحوم جولدمان (أحد مؤسسي المؤتمر اليهودي العالمي) ألقاه في مونتريال بكندا عام 1947؛ حيث قال: «إن الدولة الصهيونية سوف تُؤسَّس في فلسطين، لا لاعتبارات دينية أو اقتصادية؛ بل لأن فلسطين هي ملتقى الطرق بين أوربا وآسيا وأفريقيا، ولأنها مركز القوة السياسية العالمية الحقيقي، والمركز العسكري الإستراتيجي للسيطرة على العالم»([12]).
وجاء في مقال بعنوان (مجتمع يتغذى على الهبات الخارجية) لصحفي إسرائيلي يدعى (سبير): «إن الأمريكيين يدفعون لنا؛ لأنهم يريدون أن تكون لهم دولة تابعة مجهزة بأفضل الأسلحة والجنود»([13]).
وقال جورج كيجان، رئيس استخبارات أمريكي سابقاً وهو يتحدث عن دور التكامل بين المخترعين "الإسرائيليين" وشركات أمريكا: «إن مساهمة إسرائيل تساوي ألف دولار لكل دولار معونة قدمناها لها»([14]).
وأوضح السيناتور الأمريكي بول فيندلي (مؤلف كتاب: من يجرؤ على الكلام) أن في الإدارة الأمريكية من يرى أن إسرائيل ذات قيمة إستراتيجية كبيرة لأمريكا، وإن كان (فندلي) لا يتفق مع هذا الطرح؛ حيث قال: «إن هناك في الإدارة الأميركية من يقول: إن إسرائيل حليف استراتيجي للولايات المتحدة، وذات قيمة كبيرة للولايات المتحدة من حيث سياساتها الاستراتيجية وسياستها العسكرية، وفرض نفوذها في أجزاء أخرى من العالم»([15]).
القيمة الإستراتيجية
للكيان الصهيوني لدى الغرب
لتأييد أطروحة التفسير الاستراتيجي للانحياز، رصد الدكتور المسيري وعرض مجموعة متنوعة من الخدمات المميزة التي يمكن أن توفرها "إسرائيل" للغرب وللولايات المتحدة باعتبارها عائداً إستراتيجياً، وتتمثل في:
1- الموقع الجغرافي المتميز لفلسطين؛ مما جعل دولة "إسرائيل" قاعدة انطلاق مثالية للقوات الأمريكية إذا هُدِّدت مصالح أمريكا في الشرق الأوسط.
2- كون منطقة المشرق العربي التي زرع فيها الكيان الصهيوني لحماية مصالح راعيه مهمة من الناحية الجيوسياسية، باعتبارها مصدرا هائلا للمواد الخام الرخيصة، ومجالا خصبا للاستثمارات التي تعود عليه وحده بالربح، وسوقا كبيرة لسلعه، كما أنه أيضا قاعدة استراتيجية شديدة الخطورة والأهمية بالنسبة للأمن الغربي، إن لم يتحكم فيها قامت قوى معادية بملء الفراغ فيها، واستخدامها ضد المصالح الغربية، وحتى تتحكم القوى الاستعمارية الغربية في هذه المنطقة الخطيرة أمنيا، المهمة استراتيجيا، وتحولها إلى مادة استعمالية لصالحها عملت على تفتيتها من خلال زرع الكيان الصهيوني في أحشائها.
3- أن «الدولة الوظيفية الصهيونية... تحقق ريعا عاليا للدولة الراعية؛ لأنها تقوم بضرب تلك النظم العربية التي تحاول رفع سعر المواد الخام، أو حتى التحكم في بيعها وفي أسعارها، أو التي تختط طريقا تنمويا أو تتبنى سياسة داخلية وخارجية تهدد المصالح الغربية بالخطر»([16]).
4- ما توفره "إسرائيل" من البنَى التحتية والمواصلات والاتصالات؛ حيث تستطيع القوات الأمريكية استخدام القواعد الجوية والبحرية والبرية "الإسرائيلية" لأهدافها العسكرية.
5- تعزيز إمكانية البحث وتطوير الصناعة الحربية الأمريكية؛ إذ يمكن أن تستفيد القوات الأمريكية من التجربة العسكرية "الإسرائيلية".
6- التعاون الاستعلامي بين "إسرائيل" وحلفائها؛ فإمكانيات "إسرائيل" في الاستخبار السياسي ضخمة جداً، فكثير من الإسرائيليين جاءوا من مختلف دول المنطقة، وذلك يعطيهم معرفة أفضل باللغات، وغير ذلك من العوامل التي لا غنى عنها لأي تحليل أفضل، وتأويل أمثل للمعلومات التي يتم جمعها من المنطقة([17]).
7- أضف إلى ما تقدم أن «إسرائيل ينظر إليها بوصفها حليفة أساسية في الحرب على الإرهاب»([18])، خاصة بعد هجمات (11 سبتمبر) التي أفضت «إلى زيادة الاعتقاد بأن نضال إسرائيل ضد الإرهاب، أصبح الآن نضالا غربيا»([19]).
[1] المسيري، "الموسوعة الموجزة": 2/324.
[2] نفسه.
[3] نفسه: 2/381.
[4] نفسه: 2/214.
[5] نفسه: 2/214-215.
[6] نعوم تشومسكي، "النظام العالمي القديم والجديد"، ترجمة عاطف عبد الحميد، ط. شركة نهضة مصر، الجيزة، الطبعة.1، (2007)، ص: 420.
[7] جايمس بتراس، "سطوة إسرائيل في الولايات المتحدة"، ص: 315.
[8] نعوم تشومسكي، "أشياء لن تسمع بها أبدا"، جمع وترجمة أسعد محمد الحسين، ط. دار نينوى للنشر والتوزيع، دمشق (1430هـ/2010م)، ص: 371.
[9] نعوم تشومسكي، "النظام العالمي القديم والجديد "، ص: 408-409.
[10] نفسه، ص: 409.
[11] مهندس أحمد عبد الوهاب، "فلسطين بين الحقائق والأباطيل"، ط. مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة.1، (1392هـ/1972م)، ص: 6.
[12] عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق: 2/376.
[13] نفسه: 2/324.
[14] نفسه: 2/381.
[15] حوار مع بول فيندلي، ضمن برنامج (بلا حدود) لأحمد منصور، بث في قناة الجزيرة بتاريخ: 06/03/2002.
[16] المسيري، "الموسوعة الموجزة": 2/377.
[17] عن المرجع نفسه: 2/381، بتصرف.
[18] جون شايمر، وستفن والت، المرجع السابق، ص: 22.
[19] أنطوني لوينستاين، "قضيتي ضد إسرائيل"، ص: 269.
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا