مقدمة في المنهج العلمي في التلقي النقدي لأحاديث الفتن وأشراط الساعة
(Critical reception of talk of temptation and signs of the end of the world)
بقلم: د. الحسين بودميع
تقوم عقيدة الإسلام على أسس لا يُسَلَّم لأحد دعوى الاندراج في سلك أهله حتى يؤمن بها جملة وتفصيلا، ثم لا يجد في نفسه حرجا مما قضى الله ورسوله بشأنها ويسلم تسليما، وهي المعلنة في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ إذ أتى المسلمين يعلمهم دينهم: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»([1])، ومن الإيمان بالرسل الإيمان بخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الإيمان به صلى الله عليه وسلم الإيمان بما صح من سنته.
ولما كان ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار دائرا بين المتواتر المقطوع بنسبته إليه، وما هو دون المتواتر من المقبول المظنون نسبته إليه، والضعيف المظنون كذبه أو خطأ ناقله، والموضوع المقطوع بنفيه عنه، لزم عرض ما يضاف إليه صلى الله عليه وسلم من الأخبار على منهج علمي في نقد الروايات لتمييز المقبول والمردود منها، وليس بين مناهج نقد النصوص من حيث ثبوتها منهج أدق وأشمل من منهج النقد لدى المحدثين، وبالاحتكام إلى قواعد هذا المنهج حكم أئمة النقد الحديثي بصحة - بل تواتر- الخبر عنه صلى الله عليه وسلم ببعض ما سيكون بين يدي القيامة من الحوادث المؤذنة بقربها؛ مثل:
* ظهور خليفة مهدي من آل البيت يقيم العدل في الأرض.
* وخروج مسيح دجال معه خوارق يفتن بها الناس؛ اختبارا لصدقهم في دعوى الإيمان والصلاح.
* ونزول عيسى بن مريم من السماء لنشر الإسلام وإقامة العدل.
إلا أن بعض الطوائف من المتكلمين قديما وبعض "المفكرين+ و"رجال الإصلاح+ حديثا؛ ممن يحكمون العقل في المغيبات، ويغلبون نتائجه في تقرير المعتقدات، وممن ينفون حجية السنة مطلقا، أو حجية آحادها مطلقا، أو في باب العقائد دون الأحكام، يأبون التسليم بهذه الحقائق؛ إما بدعوى منافاتها لمقتضى العقل، أو بدعوى تناقض ما ورد بشأنها من النصوص، أو لأنها لم ترد في القرآن، وأن ما جاء منها في السنة آحاد، والعقائد لا تبنى على ما دون القطعي والمتواتر من الأدلة.
وبعضهم لم يجرؤ على إنكارها، ولكن عقله يأبى عليه التسليم بمضمونها لما تتضنمه من الخوارق التي يعجز العقل عن تفسيرها والإحاطة بكنهها، ففزع إلى تأويلها بما لا يأباه عقله.
بيد أن إنكار هذه العقائد - مع صحة الخبر بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وورود أحاديثها في الصحيحين، بل وتواترها - ينطوي على تجاوز منهج المحدثين في نقد الروايات، وإهدار جهودهم الضخمة في ذلك، مع ما يفضي إليه ذلك من مخاطر التشكيك في كل ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من السنن، كما أن تأويلها -من غير دليل- بما لا يتفق ومعهود العرب في لسانها ينطوي على تجاوز ضوابط وقواعد تفسير النصوص التي قررها علماء الفقه والأصول.
والمنهج السليم في تلقيها ونقدها إنما هو المنهج العلمي المحايد في نقد الروايات، وتمييز المقبول من المردود مما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار كما أرساه أئمة النقد الحديثي؛ فإن تجاوز هذا المنهج في الاجتهاد في نصوص السنة من حيث الثبوت -كما يحاول البعض-، فتح لباب الفوضى في التعامل مع السنة والاحتجاج بها؛ إذْ مِن شأن ذلك أن يفسح المجال لجعل الذوق وهوى النفوس معيارا حاكما في التصحيح والتضعيف، والقبول والرد، وقد قال الله تعالى: «وما آتاكم الرسول فخذوه»([2])؛ وإذا تجاوزنا منهج نقد الروايات كما أرساه المحدثون؛ فإلى أي معيار سنحتكم في تمييز ما آتانا وما لم يوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه؟
وقد لوحظ من منهج بعض من ينكر العقائد المذكورة التساهل في رد السنن، مع استعظامهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحال أن إنكار السنن الثابتة لا يختلف في حكمه عن وضع الحديث ونسبته إلى رسول الله كذبا؛ لأن الكذب عليه - الذي حذر منه بقوله المتواتر: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَِّمداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»([3]) - لا ينحصر في نسبة ما لم يقله إليه، بل يشمل أيضا نفي ما قاله عنه، فإن من نفى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله أو فعله كمن نسب إليه ما لم يصدر عنه سواء؛ فالمنكر حين يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا الحديث، والحال أنه قد قاله، يكون بلا شك كاذبا عليه صلى الله عليه وسلم ، فيكون الوعيد في قوله: (فليتبوأ مقعده من النار) شاملا له.
وعليه فكما يجب الحذر في قبول الحديث، يجب الحذر أيضا في رده.
وإن إنكار من ينكر بعض أحاديث الفتن وأشراط الساعة عائد إلى:
أولا: الإيمان باطراد السنن الكونية اطرادا مطلقا، مما يتنافى مع ما تضمنته أحاديث المهدي والدجال ونزول عيسى وغيرِها من أشراط الساعة من الخوارق، ناسين أو متناسين أن القرآن الذي يسلمون به جميعا يقرر في غير موضع أن السنن الكونية ينخرم نظامها، وينخرق اطرادها أحيانا؛ كما أوقف الله معتاد الإحراق عن نيران إبراهيم، وأعاش يونس مدة غير يسيرة في بطن الحوت. ولله في خرق القوانين الكونية حكم بليغية، لعل أظهرها: تنبيه العباد إلى أن الأسباب لا تؤثر بذاتها في المسببات، وأن الفاعل الحقيقي في هذا الكون هو الله وحده.
ثانيا: الاستخفاف بالسنة، وعدم الاعتداد بها مصدرا مستقلا معادلا للقرآن في حجيته، وقد توقع النبي صلى الله عليه وسلم حدوث هذه النزعة، فاستبقها برده الحاسم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، وليس للمثلية بين القرآن وصحيح السنة معنى سوى تماثلهما في الحجية ولزوم الأخذ بهما في كل أبواب الدين.
ثالثا: إلى أصل كلي يقضي بعدم اعتماد أخبار الآحاد في تقرير العقائد، بعد الزعم بأن أحاديث هذا الباب دون رتبة التواتر.
وهذه القاعدة لا دليل عليها إلا قولهم: إن العقائد قطعية فيحب أن تكون أدلتها قطعية، وانفراد العقائد بوصف القطع دون الأحكام يحتاج إلى دليل، ثم إن القول بعدم الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد وجواز ذلك في الأحكام قول متناقض؛ وإلا فهل يستقيم أن نسلم بخبر الآحاد إذا كان مضمونه يقرر حكما عمليا، ونكذب به إذا كان يقرر حكما اعتقاديا؟
على أن أئمة نقد الحديث –وهم المرجوع إليهم في هذا الشأن دون غيرهم- قد قرروا أن من الأحاديث التي ينكرونها ما هو متواتر، والمتواتر قطعي الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون منكره مكذبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك بعض ما يبين غلط النزعة العقلية عموما في استسهال رد السنن الثابتة مهما اتفقت كلمة المحدثين على صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقابل هذه النزعة عكسيا نزعة أخرى لا تقل خطرا عنها إن لم تكن أشد خطرا منها؛ وهي النزعة الخرافية التي تستند إلى الأساطير والأخبار الموضوعة في بناء العقائد، وتستسهل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أئمة آل البيت لتأييد نحلتها ونصرة مذهبها؛ وتمثلها الطائفة الشيعية الإمامية خصوصا في صيغتها (الاثني عشرية)، ومما تجسد فيه مسلكهم هذا: زعمهم بأن للحسن العسكري (وهو إمامهم الحادي عشر) ولدا يدعى محمدا، قد اختفى عن الأنظار منذ ولادته وهم ينتظرون ظهوره إلى الآن، ليقيم دولة الشيعة العالمية وهو المهدي المنتظر عندهم.
وعقيدتهم هذه كما سنبرهن في دراسة لاحقة خرافة بُنيت على أساطيرَ نسجها سدنة المذهب لتجَاوز مأزق موت الحسن العسكري، دون أن يعقب خلفا، لإنقاذ مذهبهم - الذي لا يجيز خلو الأرض من الإمام - من الانهيار، حماية لمصالحهم.
وخلاصة ما ترمي إليه هذه المقدمة تقرير المنهج الوسط في التعامل مع السنة من حيث الثبوت؛ المنبني على التحري في قبول ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحذر في رده؛ فلا يقبل إلا ما حكم له أهل الشأن من أئمة النقد الحديثي بالقبول، ولا يُتهوك في رد ثابت السنن بمجرد شبهة منافاته للعقل أو الحس أو وهم معارضته لعمومات القرآن.
والله المأمول أن يرزقنا التوفيق والسداد في المقاصد والأقوال والأفعال.
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا