موقف ابن خلدون
من أحاديث ظهور المهدي المنتظر
(Ibn Khaldun's position From the appearance of the awaited Mahdi)
بقلم: د. الحسين بودميع
كان بعض النقاد قديما يميل إلى إنكار أحاديث ظهور المهدي المنتظر بغرض درء ما يثيره أدعياء المهدوية من القلاقل والفتن في الأمة؛ إذ بين كل فينة وأخرى يظهر في ناحية من نواحي بلاد الإسلام من يعلن نفسه خليفة للمسلمين مدعيا أنه المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويترقب المسلمون قدومه؛ فيتبعه دهماء الناس، ويغير بهم على من خالفه وأنكر مهدويته؛ فتنشأ الحروب والفتن، وتشتد الخطوب والمحن، فرأى هؤلاء النقاد في إنكار أحاديث ظهور المهدي قطعا لدابر هذه الفتن بنسف أساسها وهو الإيمان بمجيء المنقذ المنتظر.
وممن تعرض في الماضي للطعن في أحاديث المهدي لغرض درء فتن أدعياء المهدوية: العلامة عبد الرحمن بن خلدون؛ حيث تصدى للتشكيك في صحة الأخبار التي تنبأت بظهور المهدي الذي يسميه الفاطمي المنتظر؛ فما سبب موقف ابن خلدون من أمر المهدي؟ وما حقيقة رأيه فيما روي فيه من الأحاديث؟ وما قيمة حججه التي أسند بها رأيه في ميزان النقد؟
أولا: سبب موقف ابن خلدون من أمر المهدي
وقد تضمن كلامه في نهاية الفصل الذي عقده لهذا الغرض في المقدمة ما يدل على أن تشكيكه في أخبار المهدي كان بدافع سياسي؛ وهو التصدي لأدعياء المهدوية الذين استفحل أمرهم في وقته خاصة في المغرب الأقصى، إرضاء - ربما- لسلاطين بني مرين الذين كان أمر هؤلاء المهدويين يزعجهم؛ ومضمن كلامه في آخر الفصل المذكور أن دولة بني مرين قد بلغت من السطوة والقوة مبلغا لا مطمع معه لأحد في مغالبتهم على الحكم ما لم تكن له عصبية تقوي شوكته، وقد عُلم أن القرشيين والفاطميين منهم خاصة –الذين سيكون منهم المهدي- قد تلاشت عصبيتهم وذهبت ريحهم في كل الأفاق وخاصة في المغرب، وذكَّر أثناء كلامه بما أسلفه من البرهنة على أن الدولة لا تقوم لأحد دون عصبية وشوكة، وسرد قصصا لبعض أدعياء المهدوية بالمغرب ممن استغلوا سذاجة الدهماء، وأعلنوا مهدويتهم سعيا للرياسة؛ كالتويزري، والعباس الغماري، ورجل من كربلاء؛ وخلاصة قصصهم في قوله: «أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الأبلي، قال: خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة وعصر السلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التصوف يعرف بالتويزري - نسبة إلى توزر مصغرا - وادعى أنه الفاطمي المنتظر، واتبعه الكثير من أهل السوس من ضالة وكزولة، وعظم أمره، وخافه رؤساء المصامده على أمرهم، فدس عليه السكسوي من قتله بتاتا، وانحل أمره.
وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة وعشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس، وادعى أنه الفاطمي، واتبعه الدهماء من غمارة، ودخل مدينة فاس عنوة، وحرق أسواقها، وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة، ولم يتم أمره، وكثير من هذا النمط.
وأخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا، أنه صحب في حجه في رباط العباد -وهو مدفن الشيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطل عليها- رجلا من أهل البيت من سكان كربلاء كان متبوعا معظما كثير التلميذ والخادم، قال: وكان الرجال من موطنه يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان، قال: وتأكدت الصحبة بيننا في ذلك الطريق، فانكشف لي أمرهم، وأنهم إنما جاءوا من موطنهم بكربلاء لطلب هذا الأمر، وانتحال دعوة الفاطمي بالمغرب، فلما عاين دولة بني مرين ويوسف بن يعقوب يومئذ منازل تلمسان، قال لأصحابه: ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط، وليس هذا الوقت وقتنا.
ويدل هذا القول من هذا الرجل على أنه مستبصر في أن الأمر لا يتم إلا بالعصبية المكافئة لأهل الوقت، فلما علم أنه غريب في ذلك الوطن، ولا شوكة له، وأن عصبية بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب، استكان ورجع إلى الحق، وأقصر عن مطامعه، وبقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت، لا سيما في المغرب»([1]).
ففي هذا الكلام ما يؤشر بوضوح على أن لرأي ابن خلدون السياسي أثرا بينا في موقفه من أحاديث المهدي.
ثانيا: حقيقة موقف ابن خلدون من أحاديث ظهور المهدي
مجمل كلام ابن خلدون عن المهدي وما جاء فيه من الأخبار يفيد أنه متردد في اعتقاد ظهوره؛ فلا يثبته ولا يجزم بإنكاره؛ فقد صدَّر الفصل الذي عقده لهذا الغرض؛ وهو الفصل الثالث والخمسون من الباب الثالث (في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شانه وكشف الغطاء عن ذلك)، صدره بقوله: «اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته، ويحتجون في هذا الشأن بأحاديث خرّجها الأئمة، وتكلم فيها المنكرون لذلك، وربما عارضوها ببعض الأخبار»([2])، ثم أورد (28) حديثا في المهدي، هي في تقديره كل ما ورد بشأنه؛ لذا قال: «وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا»([3])، وأتبع كل حديث بنقد إسناده، بإيراد ما يراه جرحا مما قيل في رجاله، وبعد الانتهاء من إيرادها قال: «فهذه جملة الأحاديث التي خرّجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه في آخر الزمان، وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل والأقل منه»([4])، وبعد استطراد طويل في نقد مقولة "القطبية" لدى الصوفية، وأنهم تأثروا في ذلك بمذهب الرافضة في عصمة الإمام، وما جرهم إليه ذلك من اعتقادهم في (خاتمة الأولياء) - كما يسميه ابن عربي الحاتمي-، وهو المهدي عندهم، لخص ما رآه حقا في المهدي فقال: «والحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه، حتى يتم أمر الله فيه، وقد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية التي أريناك هناك([5])، وعصبية الفاطميين [يعني الذين ينتسب إليهم المهدي كما في الحديث] بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق، ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش، إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع بالمدينة من الطالبيين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر.. فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم، ويؤلف الله بين قلوبهم في أتباعه حتى تتم له شوكة وعصبية وافية بإظهار كلمته، وحمل الناس عليها»([6]).
فقوله: « فإن صح ظهور هذا المهدي..»، صريح في تردده في ظهوره، وأنه لا يجزم بإنكاره كما يظن البعض؛ كالشيخ محمد رشيد رضا([7]).
ثالثا: نقد موقف ابن خلدون من أحاديث المهدي
تعقب ابنَ خلدون على ما قرره حول أحاديث المهدي جمع من العلماء منهم أحمد ابن الصديق الغماري في رسالة أفردها لهذا الغرض، وسماها: (إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون) أو (المرشد المبدي لفساد طعن ابن خلدون في أحاديث المهدي)، وأحمد شاكر في تحقيق المسند، عند تعليقه على حديث ابن مسعود: «لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»، والشيخ الألباني في كتاب (تخريج أحاديث فضائل الشام)، والشيخ عبد المحسن العباد في رسالته: (عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر)؛ وانتقدوا تعرضه لأمر ظهور المهدي وأحاديثه بالطعن والتشكيك من أوجه كثيرة أهمها عشرة، وهي:
أولا: أن «الحديث ليس من صناعته»([8])؛ وإنما هو «من الأخباريين الذين هم ليسوا من أهل الاختصاص»([9])؛ فلا يعتد بكلامه في الحديث؛ إذ من الواجب «الرجوع في كل فن إلى أربابه؛ فلا يقبل تصحيح أو تضعيف إلا من حفاظ الحديث ونقاده»([10])؛ فابن خلدون في نقده أحاديث المهدي «قد قفا ما ليس له به علم، واقتحم قُحَماً لم يكن من رجالها»([11])؛ لذلك «تهافت في [الفصل الذي أفرده له].. تهافتاً عجيباً، وغلط أغلاطاً واضحة»([12])؛ غير أن الشيخ محمد رشيد رضا - وهو من المنكرين للمهدي كما سيأتي – أنكر هذا الوجه من النقد لابن خلدون، فتعجب «من مُنْتَمٍ للعلم ينكر على المؤرخ العلم بنقد رجال الحديث، وهو فرع من فروع التاريخ، ولقد كان ابن خلدون أوسع المؤرخين علمًا وأدقهم نقدًا وأشدهم إنصافًا»([13])، ولكن رجال الحديث هؤلاء أولى من محمد رشيد رضا بتقييم مبلغ علم ابن خلدون من صناعة الحديث، وقد بينوا قصوره فيه من أغلاطه في نقد أحاديث المهدي، ولم يدعوا عليه ذلك ادعاء عاما من غير تفصيل، كما سترى في الأوجه التالية.
ثانيا: أن ما قرره من أن انتظار خروج المهدي هو المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار، ينبغي أن يحمله على الإقرار بصحة خروجه؛ لا على التردد والتشكيك فيه وإلا فـ«هل هؤلاء الكافة اتفقوا على الخطأ؟ والأمر ليس اجتهادياً، وإنما هو غيبي لا يسوغ لأحد إثباته إلاّ بدليل»([14]).
وقد تقرر في أصول الحديث «أن الحديث الواحد فضلا عن عدة أحاديث إذا تلقته الأمة بالقبول، يعمل به ولو كان ضعيفا حتى ينزل منزلة التواتر... فإذا كان التلقي من الأمة بالقبول يفعل هكذا بالضعيف وخبر الآحاد، فما بالك بالصحيح والمتواتر الذي هو حال أحاديث المهدي؟»([15]).
ثالثا: أن في قوله «وتكلم فيها [في أحاديث المهدي] المنكرون، وربما عارضوها ببعض الأخبار» إيهام بـ«أن هناك ما يعارض أحاديث المهدي ويقاومها»([16])، ويشير بـ«بعض الأخبار» إلى حديث أبي هريرة عند الترمذي: «لا مهدي إلا عيسى»، وهو«حديث موضوع متفق على وهنه ونكارته بين أهل الحديث»([17])، وقد صرح ابن خلدون نفسه بأن «الحديث ضعيف مضطرب»([18])، وإذا كان هذا الخبر «ضعيفا مضطربا»، بل موضوعا؛ «فكيف ساغ .. التعريض به والإشارة إلى أنه يعارض الأخبار التي خرجها الأئمة؟ ومن المعلوم المقرر في الأصول أن من شرط التعارض التساوي في الثبوت، فمن كان أكثر رواة وأوثقهم لا يعارضه ما كان دونه في القلة والتوثيق، وما كان متواترا أو مشهورا مستفيضا لا يعارضه ما كان فردا، وأخبار الباب متواترة كما علمت، فكيف تعارض بهذا الخبر الشاذ الموضوع؟»([19]).
رابعا: أن أحاديث المهدي خرجها كل من الترمذي، وأبو داود، والبزار، وابن ماجة والحاكم، والطبراني، وأبو يعلى، وأحمد بن حنبل، وابن حبان، وابن خزيمة، والضياء المقدسي .. وكتبهم من «الأصول المعتمدة التي عليها المدار في نقل قواعد الدين وأحكام الشريعة .. فكيف يقطع بنفي أمر اتفقوا على نقله؟»([20]) كذا قال ابن الصديق، وقد مر بك من كلام ابن خلدون أنه لا يقطع بنفي أمر المهدي.
خامسا: أن أحاديث المهدي رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة كما يذكر ابن خلدون نفسه «علي، وابن عباس، وابن عمر، وطلحة، وابن مسعود، وأبو هريرة، وأنس، وأبو سعيد الخدري، وأم حبيبة، وأم سلمة، وثوبان، وقرة ابن إياس، وعلي الهلالي، وعبد الله بن الحارث»([21])، وعدد الصحابة المذكورين،«وهو أربع عشرة نفسا، كاف في ثبوت التواتر وإفادة العلم على مذهب جماعة من الفقهاء وعلماء الأصول والحديث، .. وقد حكم الحفاظ لكثير من الأحاديث التي لم يبلغ رواتها هذا العدد بالتواتر»([22])، و«قد تعددت الطرق إلى جل هؤلاء الصحابة المذكورين»([23])، وقد ذكرنا لك جمعا ممن نصوا على تواتر أحاديث هذا الباب من النقاد؛ فإذا صح تواترها لم يبق معنى لقول ابن خلدون «إن جماعة من الأئمة خرجوا أحاديث المهدي .. وأسندوها إلى جماعة من الصحابة بأسانيد ربما يعرض لها المنكرون [يعني بالنقد] كما نذكره»([24])، لأن الخبر إذا «وصل إلى حد التواتر لا يبحث عن رجاله من جهة الجرح والعدالة .. بل يجب العمل به من غير بحث»([25]).
سادسا: أنه اعتمد في نقد أحاديث المهدي على مقدمة نظرية وضعها بين يدي نقده تنص على «أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل؛ فإذا وجدنا طعنا في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي [يعني ولو وجدنا فيهم تعديلا] تطرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها»([26])، وقد قدمنا أنه أورد بعد كل حديث ما قيل في بعض رجاله مما رآه جرحا؛ وقد ضمن هذه المقدمة ثلاث قواعد حديثية؛ وهي:
1- قاعدة: الجرح مقدم على التعديل.
2- رد رواية من عرف بسوء الحفظ.
3- رد رواية المبتدع؛ وهو المقصود بقوله: من طعن فيه بـ«سوء الرأي».
وهذه القواعد ليست على إطلاقها عند علماء الحديث؛ وإنما أطلقها ابن خلدون «ليتوصل بذلك إلى تحصيل مراده من إنكار ما لم يقبله طبعه، ولا دان للتصديق به عقله؛ كتوصله بإطلاق كون سوء الحفظ من أسباب ضعف الحديث إلى رد حديث نحو عاصم بن أبي النجود([27])، حيث لم يجد ما يرد به حديثه إلا سوء الحفظ مع الصدق والعدالة، وكتوصله أيضا بإطلاق كون سوء الرأي من أسباب الضعف والرد إلى رد حديث نحو فطر بن خليفة([28])، الذي لم يجد سبيلا إلى الطعن فيه والرد لحديثه إلا سبيل تهمته بالتشيع»([29]) .
* فقاعدة (الجرح مقدم على التعديل) ليست على «الإطلاق الذي ذكره، بل لهم [أي العلماء] فيها مذاهب وتفصيلات وشروط مبسوطة في المطولات، منبه عليها في المختصرات من كتب الحديث والأصول .. وإلا فلو فتحنا هذا الباب، وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون»([30]).
وللعلماء في هذه المسألة أربعة أقوال:
1- قول بتقديم الجرح إذا كان مفسرا، صادرا عن عارف بأسبابه، غير متعصب ضد مذهب المجروح، ولا من أقرانه، ولا كان المطعون فيه مشهورا بالإتقان والعدالة.
2- وقول بتقديم التعديل.
3- وقول بتقديم قول الأكثر من المجرحين والمعدلين.
4- وقول بأنهما يتعارضان؛ فلا يقدم أحدهما على الآخر إلا بمرجح([31]).
وصنيع أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وأبي داود يدل على أنهم لا يرون الأخذ بقاعدة تقديم الجرح على التعديل على إطلاقها؛ فقد «احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم؛ كعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، وكإسماعيل بن أبي أويس، وعاصم بن علي، وعمر بن مرزوق، وغيرهم، واحتج مسلم بسويد بن سعيد، وجماعة اشتهر الطعن فيهم، وهكذا فعل أبو داود السجستاني؛ وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه»([32])؛ و«من هذا تعلم أن إطلاقه [أي ابن خلدون] تقديم الجرح على التعديل إطلاق فاسد»([33]) وبسبب ذلك وقع له من الغلط ما وقع في نقد أحاديث المهدي؛ فإنه «لم يحسن قول المحدثين: الجرح مقدم على التعديل، ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئاً مما قال، وقد يكون قرأ وعرف، ولكنه أراد تضعيف أحاديث المهدي، بما غلب عليه من الرأي السياسي في عصره»([34]). لعل الشيخ شاكر يريد بهذا ما قدمناه من أن ابن خلدون قصد بالطعن في أحاديث المهدي دفعَ دعوات أدعياء المهدوية بالمغرب إرضاء لسلاطين الدولة المرينية.
* وكذلك «تقريره كون الطعن في رجال الإسناد .. بالغفلة أو بسوء الحفظ يوهن من صحة الأحاديث، تقرير باطل، وإطلاق فاسد؛ إذ المتفق عليه بين علماء الحديث ... [أنه] إذا كان الضعف ناشئا من سوء حفظ أو غفلة مع كون الراوي الموصوف بذلك صدوقا في نفسه؛ فإنه يزول ذلك الضعف بمجيء الحديث من وجه آخر، ويعرف بذلك أن الراوي قد حفظ ولم يختل فيه ضبطه»([35])
* أما القول برد رواية من رمي بالبدعة، فليس على إطلاقه كذلك؛ بل للعلماء فيه مذاهب وتفصيلات وشروط؛ والمنخول من أقوالهم في ذلك ما حققه الحافظ ابن حجر في نخبة الفكر من قبول رواية من لم تكن بدعته مكفرة بأن ينكر أمرا متواترا معلوما من الدين بالضرورة، إذا لم يكن داعية لمذهبه، ولم يكن فيما رواه تأيد لبدعته([36]).
وإنما لم يأخذ أهل الحديث بهذا القول على إطلاقه لأن «الكثير من نقلة الأحاديث ورواة الآثار من عصر التابعين وأتباعهم فمن بعدهم، مذاهبهم مختلفة، وآراؤهم في الاعتقاد متباينة، مخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة؛ من النصب [وهو بغض آل البيت]، والرفض، والإرجاء، والقدر، والتقلد برأي الخوارج، وغير ذلك؛ مع صلابتهم في الدين والورع، وشدة تحريهم في الصدق؛ فلو رد حديث هؤلاء لذهبت جملة الآثار، [و] كيف يصدق الطاعن [أي ابن خلدون] في دعواه، وهذان الصحيحان المتفق على صحتهما بين المسلمين قد خرج صاحباهما لجماعة رموا بالإرجاء .. ولجماعة رموا بالنصب.. ولجماعة رموا بالتشيع ..؟»([37]).
سابعا: أن الإخبار بظهور المهدي ثابت في الصحيح؛ فقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَلِيفَةٌ يَقْسِمُ الْمَالَ وَلا يَعُدُّه»([38])، وهو وإن ورد مبهما في رواية مسلم، فقد ورد معينا في رواية الترمذي وغيره؛ عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ فِي أُمَّتِي الْمَهْدِيَّ يَخْرُجُ يَعِيشُ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا ... قَالَ فَيَجِيءُ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَيَقُولُ: يَا مَهْدِيُّ أَعْطِنِي أَعْطِنِي، قَالَ: فَيَحْثِي لَهُ فِي ثَوْبِهِ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَحْمِلَهُ»([39]).
وقد تنبه ابن خلدون إلى هذا، فخشي أن يهدم ما رامه من توهين أحاديث المهدي؛ لأن ما ثبت وروده في الصحيحين، أو أحدهما حجة لازمة عنده «فإن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول والعمل بما فيهما»([40])؛ فنفى أن يكون «حديث الترمذي وقع تفسيرا لما رواه مسلم في صحيحه [لأن] أحاديث مسلم لم يقع فيها ذكر المهدي، ولا دليل يقوم على أنه المراد منها»([41]).
والحق أن (الخليفة) المتنبأ في صحيح مسلم بظهوره آخر الزمان، هو المصرح باسمه في رواية الترمذي، وأنه (المهدي)؛ فإن ما ورد عند مسلم يعد «من مبهم المتون، وطريق معرفته معلومة مقررة في علوم الحديث والتفسير؛ وهي ورود ذلك المبهم مسمى في بعض الروايات، خصوصا إذا اتحد المخرج كما هنا؛ فإن أبا سعيد الخدري الراوي لحديث (الخليفة) المبهم هو الراوي للحديث المعيِّن له بأنه (المهدي)، والصفة الموصوف بها الخليفة المبهم هي عينها الموصوف بها المعين؛ وهي كون كل منهما يحثو المال ولا يعده، وأنه في آخر الزمان، وأنه من خلفاء هذه الأمة؛ ولا يستريب عاقل مع هذا الوضوح التام والدلالة الظاهرة في أن المراد بالخليفة المبهم في حديث أبي سعيد [عند مسلم] هو المهدي المعين في حديثه أيضا[عند الترمذي] ، ولو كان كما يقوله الطاعن من أنه لا دلالة تقوم على أن المهدي هو المراد من أحاديث مسلم مع اتحادها في المخرج والصفات؛ لما صح تفسير مبهم في القرآن والحديث أصلا؛ إذ أعلى ما يفسِّر المبهم فيهما وروده معينا في آية أو رواية أخرى»([42]).
ثامنا: أن ما أتبع به كل حديث من الطعون في رجاله توسلا بذلك إلى توهينه متعقب بما يكشف قصوره عن أن ينال من صحة معظم تلك الأحاديث؛ فقد تتبع ابن الصديق طعونه في أحاديث المهدي واحدا واحدا حتى استوفاها جميعا؛ وانتهى في ردوده إلى أن جل الأحاديث التي أوردها صحيح أو حسن ولم يخرج عن حد المقبول منها إلا القليل، والأقل منه عكس ما انتهى إليه ابن خلدون.
تاسعا: وهمه في ظنه استقصاء ما ورد في شأن المهدي بأكمله؛ فـ«إنه قد فاته الشيء الكثير»([43])؛ لأن « جميع ما ذكره من الأحاديث ثمانية وعشرون، والوارد في الباب ضعف أضعاف ذلك»([44])؛ أورد من ذلك ابن الصديق (72) حديثا ما بين مرفوع وموقوف غير ما ذكره ابن خلدون؛ فأوصل عدتها إلى مئة حديث؛ ثم قال: «ولنقتصر على هذا القدر من الوارد في المهدي؛ فإنه لا محالة مبطل لدعوى الطاعن من استقصائه أخباره، وتتبعه آثاره»([45])، وقد مر أن من الباحثين من جمع منها (338) حديثا.
فلو سلمنا جدلا بضعف كل ما أورده فيه لاحتمل أن يكون فيما لم يورده حديث أو أحاديث مما تقوم به الحجة.
عاشرا: أن نقده لأحاديث المهدي ليس «موجها إلا في القليل والأقل منه عكس ما قال، وعلى فرض تسليم دعواه، وأنه لم يسلم منها إلا القليل أو الأقل منه، فما الشبهة عنده في دفع ذلك القليل؟ وما الاعتذار عن عدم قبول ذلك الأقل الذي اعترف بصحته وأقر بخلاصه من النقد وسلامته»([46])؛ فـ«إن القليل الذي يسلم من النقد يكفي للاحتجاج به، ويكون الكثير الذي لم يسلم عاضداً له ومقوياً»([47])؛ بل لو لم يصح في المهدي إلا حديث واحد لكان كافيا في وجوب الإيمان بظهوره؛ إذ ليس من شرط التصديق بقضية أن ترد فيها النصوص الكثيرة.
[1] المقدمة، ط. دار الفكر، بيروت، (1428هـ/2007م)، ص: 333-334.
[2] المقدمة، ص: 317.
[3] نفسه، ص: 332
[4] نفسه، ص: 327.
[5] يشير بذلك إلى فصول الباب الثالث من المقدمة الذي عقده للحديث عن (طبائع الدول العامة والملك والخلافة)، وبالأخص الفصل الأول منه الذي قرر فيه «أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية»، والفصل السادس الذي أكد فيه «أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم».
[6] المقدمة، ص: 332-333.
[7] فتوى حول المهدي المنتظر، منشورة بمجلة المنار، عدد يوم الاثنين 16 صفر 1322هـ، الموافق 2 مايو 1904م، ضمن المجلد7، ص: 145.
[8] الشيخ الألباني، " تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق، لأبي الحسن علي بن محمد الربعي"، ط. مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة.1، (1420هـ/2000م)، ص: 45.
[9] عبد المحسن العباد، "عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر"، مطبوع ضمن "كتب ورسائل عبد المحسن بن حمد العباد البدر"، ط. دار التوحيد للنشر، الرياض، (1428هـ): 4/318.
[10] أحمد بن الصديق الغماري، "إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون"، أو "المرشد المبدي لفساد طعن ابن خلدون في أحاديث المهدي"، ص: 13.
[11] أحمد محمد شاكر، في تحقيقه لمسند الإمام أحمد؛ ط. دار الحديث، القاهرة، الطبعة.1، (1416هـ/1996م): 3/492، الحديث رقم (3571).
[12] نفسه.
[13] المسائل الزنجبارية، فتاوى منشورة بمجلة المنار، عدد يوم السبت 16 جمادى الأولى 1322هـ، الموافق 30 يوليو 1904م، ضمن المجلد7، ص: 393.
[14] عبد المحسن العباد، المرجع السابق: 4/318-319.
[15] أحمد بن الصديق الغماري، المرجع السابق، ص: 17-18.
[16] نفسه، ص: 18.
[17] نفسه.
[18] المقدمة، ص: 328.
[19] أحمد بن الصديق الغماري، المرجع السابق ، ص: 19.
[20] نفسه.
[21] المقدمة، ص: 317.
[22] أحمد بن الصديق المرجع السابق، ص: 24.
[23] نفسه، ص: 25.
[24] المقدمة، ص: 317.
[25] أحمد بن الصديق، نفس المرجع، ص: 28.
[26] المقدمة، ص: 31.
[27] يقصد حديث ابن مسعود، الذي رواه الإمام أحمد في مسنده (3571)، قال: حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا عاصم عن زر عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»، قال أحمد شاكر في تحقيق المسند: 3/491: «إسناده صحيح»
[28] يقصد ما أخرجه أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا فطر [بن خليفة]، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدَّهْرِ إِلا يَوْمٌ لَبَعَثَ اللَّهُ رَجُلا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلَؤُهَا عَدْلا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا»، صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم (5305)، وقال أحمد بن الصديق في "إبراز الوهم المكنون"، ص: 60: «الحديث صحيح على شرط الشيخين».
[29] إبراز الوهم المكنون، ص: 41.
[30] أحمد بن الصديق، المرجع السابق، ص: 29-32.
[31] إبراز الوهم المكنون، ص: 36، بتصرف.
[32] نفسه، ص: 30.
[33] نفسه. ص: 36.
[34] أحمد شاكر، في تحقيقه لمسند الإمام أحمد: 3/492، الحديث رقم (3571).
[35] أحمد بن الصديق، المرجع السابق. ص: 37.
[36] انظر كتاب: "المنهج المبتكر في شرح نخبة الفكر"؛ للمؤلف، ص: 247.
[37] أحمد بن الصديق، نفس المرجع ، ص: 38-39.
[38] أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، رقم (7247).
[39] أخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في المهدي، رقم (2232)، وقال: «هذا حديث حسن»، وقال أحمد بن الصديق في "إبراز الوهم المكنون"، ص: 82: «وهو - كما قال الترمذي- حديث حسن»، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7/616: «رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات»، وحسنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجة"، رقم (4083).
[40] المقدمة، ص: 317.
[41] نفسه، ص: 321.
[42] أحمد بن الصديق، المرجع السابق، ص: 83.
[43] عبد المحسن العباد، المرجع السابق: 4/319.
[44] أحمد بن الصديق، نفس المرجع، ص: 132.
[45] نفسه، ص: 152.
[46] نفسه، ص:153.
[47] عبد المحسن العباد، نفس المرجع: 4/320.
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا