نظرية الإمام الغائب عند الشيعة في ميزان النقد
(The theory of the absent Imam for the Shiites in the balance of cash)
بقلم: د. الحسين بودميع.
فكرة الإيمان بإمام (خفي) أو (غائب) تكاد توجد لدى معظم فرق الشيعة؛ حيث تذهب كل من هذه الفرق بعد موت من تدعي إمامته من أهل البيت إلى إنكار موته، والقول بغيبته، واختفائه عن الناس، وعودته إلى الظهور في المستقبل، مهدياً يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً([1]).
ومنشأ القول بـ"غيبة الإمام" لدى الشيعة الإمامية الاثني عشرية هو موت إمامهم الحادي عشر (الحسن العسكري) دون أن يعقب ولدا؛ وذلك يعني انقطاع الإمامة، و(الإمامة) عندهم من الأصول الكبرى في الدين، بل هي عندهم أعظم دعائم الإسلام؛ كما يفيده ما رواه الكليني «عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية، قال زرارة: [راوي الخبر في زعمهم عن أبي جعفر] فقلت: وأي شئ من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن، والولي [أي الإمام] هو الدليل عليهن»([2]) ، بل يرون منزلة الإمامة أعلى من منزلة النبوة؛ ومن مؤلفاتهم في ذلك كتاب (تفضيل الأئمة على الأنبياء)، من تأليف علي الحسيني الميلاني، وقد جاء في مقدمته: «موضوع البحث: مسألة تفضيل الأئمة عليهم السلام على الأنبياء عليهم السلام، هذه المسألة مطروحة في كتب أصحابنا منذ قديم الأيام، ولهم على هذا القول أو هذا الاعتقاد أدلتهم»([3]) .
ومن أصولهم أن الأرض لا تخلو من إمام لحظة واحدة، و«لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لساخت بأهلها، وماجت كما يموج البحر بأهله»([4]).
فلما مات الحسن بن علي العسكري ولم يعقب ولدا، ولا يجوز أن تكون الإمامة عندهم إلا في عقبه؛ اضطربت الأتباع وداخل الشكُّ نفوسَهم في صحة أصول المذهب، لأن الأرض خلت من "الإمام"، ولم تسخ بأهلها، ولا ماجت موج البحر بأهله، فخاف "السدنة" من ضياع المذهب واضمحلاله، ومن ثم ضياع مصالحهم؛ فادعوا أن للحسن العسكري ولدا، وهو الإمام من بعده، وحيث إنها دعوى بلا دليل، وأن الذي عاينه الناس أن العسكري مات ولم يعقب خلفا، ولا يعرفون له ولدا؛ كان المخرج من هذا المأزق أن أحدثوا القول بالغيبة، وأن شأن الصبي المولود سر خفي من أسرار الله، وأن الله أخفاه عن الأعين، ولم يجعل لأحد -دون خاصة شيعته- القدرة على رؤيته إلى أن يأذن الله له في الخروج.
ووضعوا أحاديث وروايات توجب الإيمان بولادة الإمام الثاني عشر، والتسليم بغيبته، وتكفر من يشك في ذلك، وتحرم السؤال عنه وعن مكانه، وأولوا فيه آيات غير قليلة من القرآن، وقد قدمنا نماذج من ذلك.
وإثبات كذب رواياتهم في المهدي وغيبته وظهوره، وبطلانِ تأويلاتهم لما يؤولونه من نصوص القرآن في ذلك لا يحتاج إلى كبير جهد؛ فإن ألفاظها ناطقة بفسادها، مما تثيره من السخرية بواضعها في نفس قارئها،
ارجع مثلا إلى قصة محاكمة قائمهم لأبي بكر وعمر، واقرأ ما فيها من السخف وأمارات البلادة لدى واضعها؛ فأي عقل تراه لمؤلف هذه الدراما الرديئة؟ انظر كيف استخف بعقول القوم فصدقوه في زعمه أن (حجة الله على خلقه) الذي (سيملأ الأرض عدلا) سيدشن عهد (دولته العادلة) بمعاقبة الرجلين على كل ذنب اقترفه بنو آدم من آدم إلى وقت خروجه، وليس يخفى عليك أن من أصول العدل الفطرية والقرآنية ألا تزر وازرة وزر أخرى.
هذا أنموذج من رداءة الحبك والوضع التي تفيض بها رواياتهم عموما ورواياتهم في المهدي خصوصا، نجتزئ عن تتبعها بالنقض تفصيلا بالقول إجمالا: إن أهل السنة -وهم أغلب المسلمين، وأقعد بتمحيص الروايات- لا يعرفون شيئا من روايات الشيعة هذه، ولا توردها مصادرهم في الحديث والتفسير، مما يقضي بكذبها.
ومما ينبيك عن أكذوبة (الإمام الغائب) أن فرق الشيعة وهي تربو عن سبعين فرقة؛ لا تقر جميعها –ما عدا الإثناعشرية- بأن للحسن العسكري ولدا؛ وقد حكى الحسن بن موسى النوبختي، وهو من علماء الإمامية عن بعض فرق الشيعة قولهم: «إنه لا ولد للحسن [العسكري] أصلا؛ لأنا قد امتحنا ذلك وطلبناه بكل وجه فلم نجده، ولو جاز لنا أن نقول في مثل الحسن وقد توفي ولا ولد له: إن له ولدا خفيا، لجاز مثل هذه الدعوى في كل ميت عن غير خلف، ولجاز مثل ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن يقال: خلف ابنا نبيا رسولا .. لأن مجيء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب كمجيء الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف ذكرا من صلبه»([5]).
وحكى ابن تيمية عن علماء الأنساب «أن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ولم يعقب، كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من أهل العلم بالنسب»([6]).
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور: «اتفق جمهور علماء الأنساب على أن السيد الحسن العسكري ليس له ولد»([7]).
ويعترف الإمامية أنفسهم في كتبهم بأنهم خالفوا جمهور المسلمين في دعوى أن للحسن العسكري ولدا؛ فهذا النعماني يقر في "غيبته" أن (محمد بن الحسن) «يشك جمهور الناس في ولادته إلا القليل»([8])؛ فهل من المقبول في ميزان النقد التاريخي أن يخطئ عامة المسلمين - بمن فيهم أكثر من سبعين فرقة من الشيعة- الحقيقة التاريخية في هذا الشأن، وتصيبها فرقة واحدة من الشيعة؟
ومما يعزز قول المنكرين لولادة مولود للحسن العسكري تناقض حكايات الإمامية في قصة تزويجه، وتضارب رواياتهم في حدث الولادة المزعومة والغيبة الموهومة للإمام الثاني عشر؛ ومن هذه التناقضات:
أولا: أن المجلس يحكي في (بحار الأنوار) كما تقدم أن أم المولود جارية نصرانية رومية اسمها (نرجس)، أسرت في حرب بين المسلمين والروم، واشتراها بشر بن سليمان النخاس بتوكيل من أبي الحسن علي بن محمد العسكري، وأدخلت عروسا على الحسن العسكري، فولدت منه المولود المزعزم([9]).
وفي رواية أخرى مناقضة لهذه عند المجلسي نفسه عن حكيمة بنت محمد ابن علي الجواد قالت: «كانت لي جارية يقال لها نرجس: فزارني ابن أخي عليه السلام، وأقبل يحد النظر إليها، فقلت له: يا سيدي لعلك هويتها، فأرسلها إليك؟ فقال: لا يا عمة، لكني أتعجب منها، فقلت: وما أعجبك؟ فقال عليه السلام: سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل الذي يملأ الله به الأرض عدلا...، وأتيت منزل أبي الحسن..، وقال: ياحكيمة، ابعثي بنرجس إلى ابني أبي محمد..، فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزينتها، ووهبتها لأبي محمد»([10]).
فالأم في الرواية الأولى جارية في ملك أبي الحسن اشتراها ليزوجها من ابنه؛ وهي في الرواية الثانية في ملك العمة (حكيمة)، فوهبتها للحسن العسكري حين رأت إعجابه بها.
وهذا تناقض يقضي بكذب الرواية من أصلها، إضافة إلى ما في قول الحسن المذكور: «سيخرج منها ولد كريم ..إلخ» من نسبة علم الغيب لغير الله.
ثانيا: جاء في رواية عند ابن بابويه القمي أن قابلة المولود (حكيمة بنت محمد بن علي الجواد) انصرفت بعد فراغها من توليده إلى بيتها ليلا، قالت: «فلما أصبحت جئت لأسلم على أبي محمد عليه السلام، وكشفت الستر لأتفقد سيدي عليه السلام [أي الطفل]، فلم أره، فقلت: جعلت فداك ما فعل سيدي؟ فقال: يا عمة استودعناه الذي استودعته أم موسى موسى»([11]).
وفي رواية أخرى عنده أن أبا الصبي صاح على عمته حكيمة فور سقوط المولود من بطن أمه، فقال: يا عمة تناوليه وهاتيه، [قالت:] فتناولته وأتيت به نحوه، ..، فتناوله الحسن .. مني، وناوله لسانه فشرب منه، ثم قال: امضي به إلى أمه لترضعه ورديه إلي، قالت: فتناولته أمه فأرضعته، فرددته إلى أبي محمد عليه السلام، والطير ترفرف على رأسه، فصاح بطير منها فقال له: احمله واحفظه، ورده إلينا في كل أربعين يوما، فتناوله الطير وطار به في جو السماء، وأتبعه سائر الطير، فسمعت أبا محمد عليه السلام يقول: أستودعك الله الذي أودعته أم موسى موسى... قالت حكيمة: فقلت: وما هذا الطير؟ قال: هذا روح القدس الموكل بالأئمة عليهم السلام، يوفقهم ويسددهم ويربيهم بالعلم»([12]).
ففي الرواية الأولى أن الصبي غاب بعد ولادته بيوم، وأن العمة حكيمة لم تشاهد وقائع الغيبة، فسألت عنه؛ أما في الرواية الأخرى فقد غاب بعد ولادته مباشرة، وبمعاينة العمة حكيمة، وهذا تناقض واضح.
ثالثا: جاء في رواية عند المجلسي والقمي وغيرهما حول نمو الطفل "الإمام" ما يخالف سنة الله في نمو البشر، وما يصادم صريح القرآن؛ وذلك فيما حكته العمة حكيمة، قالت: «لما أن كان بعد أربعين يوما [من ولادته وغيبته] رد الغلام ووجه إليَّ ابنُ أخي عليه السلام، فدعاني فدخلت عليه فإذا أنا بصبي متحرك يمشي بين يديه فقلت: سيدي هذا ابن سنتين، فتبسم عليه السلام، ثم قال: إن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشئون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وإن الصبي منا إذا أتى عليه شهر كان كمن يأتي عليه سنة»([13]).
وقد علم من قصة طفولة موسى في القرآن أن نموه كان نموا عاديا كما ينمو سائر الأطفال، وهو نبي ومن أولاد الأنبياء؛ لأنه من سلالة إبراهيم، لقوله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ [أي إبراهيم] دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ)([14]).
بينما الذي حكته حكيمة عن إمام الشيعة "المعصوم" يقضي بأن يكون موسى عليه السلام وهو من أولاد الأنبياء قد نشأ على خلاف العادة، وقد ذكر المجلسي في (بحار الأنوار) أن المدة التي غابها موسى عن أمه إذ قذفته في اليم إلى أن رد إليها «كانت سبعين يوما، وروي سبعة أشهر»([15])، واعتمادا على رواية المجلسي لمدة مكثه لدى فرعون، فسيكون موسى حين رد إلى أمه لترضعه قد تجاوز فترة الرضاعة؛ فبناء على "أن الصبي من أولاد الأنبياء والأوصياء إذا أتى عليه شهر كان كمن يأتي عليه سنة" فلو أخذنا بالمدة الأقل، وهي (70 يوما)، فسيكون بمثابة ابن سنتين وأربعة أشهر، فكيف إذا اعتمدنا رواية مكثه سبعة أشهر؟ واللائي يردن إتمام الرضاعة من الوالدات إنما (يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)([16]).
وهو إنما رد لأمه لتكفله وترضعه بعد يأس آل فرعون من وجدان مرضع يقبلها؛ كما قال تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُون)([17])
فهذا التناقض بين روايات الولادة والغيبة المزعومة لـ"الإمام الغائب" فيما بينها، وبينها وبين سنن الخلق وحقائق القرآن دليل آخر يقضي ببطلان القصة من أساسها؛ لأن الحقائق لا تتناقض؛ وإذا بطل أن يكون للحسن العسكري ولد، وأن الإمام الثاني عشر المزعوم لا وجود له؛ انهارت نظرية الشيعة الإمامية في المهدي المنتظر من أساسها؛ وكفانا ذلك مؤنة تتبع مئات الروايات التي اخترعوها فيه بالنقد والإبطال.
[1] انظر الحسن بن موسى النوبختي، "فرق الشيعة"، تحقيق عبد المنعم الحنفي، ط. دار الرشاد، القاهرة، الطبعة.1، (1412هـ/1992م)، ص: 31، وما بعدها.
[2] أبو جعفر الكليني، "الأصول من الكافي": 2/18.
[3] علي الميلاني، "تفضيل الأئمة على الأنبياء"، ط. مركز الأبحاث العقائدية، طهران، الطبعة.1 (1421 هـ)، ص: 7.
[4] النعماني، "الغيبة"، ص: 140.
[5] كتاب " فرق الشيعة "، ص109.
[6] أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية"، تحقيق: محمد رشاد سالم، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة.1 (1406هـ/1986م): 1/122.
[7] تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة، ط. دار سحنون، تونس، ودار السلام، القاهرة، ط.2، (1429هـ/2008م)، ص: 54.
[8] النعماني، كتاب "الغيبة"، ص: 174.
[9] المجلسي، "بحارالأنوار": 51/6-7.
[10] المجلسي، نفس المصدر: 51/12.
[11] ابن بابويه القمي، نفس المصدر،ص: 425
[12] ابن بابويه القمي، المصدر السابق، ص: 428-429.
[13] المجلسي، المصدر السابق: 51/14.
[14] سورة الأنعام: 84.
[15] بحار الأنوار: 35/20.
[16] سورة البقرة: 233.
[17] سورة القصص: 12.
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا