حديث مقاتلة المسلمين اليهود (the Jews) في آخر الزمان
رواية ودراية
بقلم: الدكتور الحسين بودميع
بسم الله الرحمن الرحيم، عليه أتوكل وبه أستعين، والصلاة والسلام على المخبر أمته بما كان وما يكون.
وبعد؛
فقد صح عن رسول الله e أنه تنبأ بمعركة فاصلة يخوضها المسلمون ضد اليهود في آخر الزمان، تنتهي بانتصار المسلمين ودحر اليهود، حتى إن اليهود يفرون ويختبئون وراء الحجر والشجر، فينطق الله الحجر والشجر بالإخبار عنهم.
وقد تكلم بعض الكاتبين من المعاصرين عن هذا الحديث، وبنوا عليه توقعاتهم حول مصير "إسرائيل"، ومآل الصراع مع اليهود في فلسطين، متوهمين أن اليهود المحتلين الآن أرضَ فلسطين هم المعنيون في الحديث.
فهل اليهود الحاليون المغتصبون الآن بلاد فلسطين هم من سيقاتلهم المسلمون فيفرون من وجوههم منهزمين حتى يختبؤوا وراء الحجر والشجر؟
وهل الصراع القائم اليوم في أرض فلسطين صالح لتنزيل الحديث عليه؟
وإذا كان الصراع الحالي لذلك صالحا، وصح أن ما تنبأ به الحديث لن يحدث إلا قبيل يوم القيامة؛ فهل سيستمر الاحتلال الصهيوني الحالي لبلاد فلسطين إلى ذلك الوقت؟
أم أن للحديث تعلقا بالأحداث الكبرى التي ستحدث بين يدي الساعة، وأن الاحتلال سينتهي قبل وقوع الأحداث التي يتعلق بها الحديث؟
في هذه المقالة محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها؛ وهي مؤلفة من ثلاثة محاور:
أولها: في تخريج الحديث
ثانيها: في غريبه
ثالثها: في استلهام شيء من فقهه
أولا: تخريج الحديث
1. نص الحديث
عن أبي هريرة أن الرسول e قال: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ؛ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقتلهُ، إِلاَّ الْغَرْقَدَ؛ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ».
2. تخريجه
الحديث رواه مسلم باللفظ المثبت أعلاه في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، رقم (7268).
وأخرجه البخاري مختصرا من حديث عبد الله بن عمر في كتاب الجهاد والسير، باب قتال اليهود، رقم (2925)، بلفظ :«تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول: يا عبد الله، هذا يهودى ورائى فاقتله»، ورواه بلفظ مقارب له في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم (3593)، ورواه من طريق أبي هريرة في الموضع الأول نفسه، رقم (2926) بلفظ: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله».
وأخرجه البيهقي عن ابن عمر بمثل لفظ البخاري الأول، في السنن الكبرى، كتاب السير، باب قتال اليهود، رقم (19061).
وأخرجه الحاكم في المستدرك، رقم (8612)، ضمن قصة طويلة لخروج الدجال من حديث حذيفة بن أسيد.
وأخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، رقم (9165)، عن ابن عمر بمثل لفظ البخاري السابق، وفي المعجم الكبير، رقم (13197)، عن ابن عمر أيضا بلفظ آخر.
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب فتنة الدجال، رقم (4077)، ضمن قصة خروج الدجال عن أبي أمامة الباهلي.
ورواه الترمذي بمثل لفظ البخاري المذكور في كتاب الفتن، باب ما جاء في علامة الدجال، رقم (2236).
وأخرجه أحمد في مسانيد عدة صحابة من المسند، بألفاظ مختلفة، ضمن وقائع مختلفة؛ منها رواية برقم (14997).
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، رقم (37494) موقوفا على عبد الله بن عمرو.
والحديث –إذ هو مخرج في الصحيحين- صحيح من أعلى مراتب الصحيح، بل قد يرتفع باتفاق الشيخين على تخريجه إلى مرتبة القطع بثبوته؛ فإن «خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول .. يقطع بصدقه»([1])، وذلك أن «الأمة في إجماعها معصومة من الخطأ»([2])، والخبر المسند في الصحيحين من هذا النمط؛ «لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفق البخاري ومسلم عليه بالقبول»([3]).
ثانيا: غريب الحديث
(الغَرْقَد): «ضرب من شجر العضاه([4]) وشجر الشوك، والغرقدة: واحدته»([5])، قال النووي: «(الغرقد) نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس»([6]).
وهو معروف لدى العرب؛ ينبت في أرضهم، ويكثر وروده في أشعارهم.
وقد كان يقال لبعض مدافن أهل المدينة: ٍ«بَقِيعُ الغَرْقَد؛ لأنه كان يُنْبِتُه»([7]).
ومن شعر الخطيم المحرزي:
أواعسُ في برثٍ من الأرضِ طيبٍ ¹ وأوديةٌ ينبتنَ سدراً وغرقدا.
وقال جرير:
أقولُ لهُ: يا عبدَ قيسٍ صبـابةً ¹ بِأيٍّ تَرَى مُسْتَوقْدَ النّارِ أوْقَــــدَا؟
فقالَ: أرى ناراً يشبُّ وقودها ¹ بحيثُ استفاضَ الجِزْعُ شيحاً وَغَرْقَـدَا
ويسمى في أسفار اليهود: العوسج، وهو عندهم ملك الأشجار، كما في هذا النص: «ثُمَّ قَالَتْ جَمِيعُ الأَشْجَارِ لِلْعَوسَجِ: تَعَالَ أَنْتَ وَامْلِكْ عَلَيْنَا، فَقَالَ الْعَوْسَجُ لِلأَشْجَارِ: إِنْ كُنْتُمْ بِالْحَقِّ تَمْسُحُونَنِي عَلَيْكُمْ مَلِكاً، فَتَعَالَوْا وَاحْتَمُواْ تحْتَ ظِلِّي»([8]).
ولا تنافي بين التسميتين، فإن العوسجة «إذا عظمت.. صارت غرقدة»؛ كما نقل النووي وغيره عن أبي حنيفة الدينورى([9]).
وقد ذكر ضياء الدين أبو محمد ابن البيطار الأندلسي في (جامعه) الذي جمعه في الأدوية والأغذية أن (الغرقد) «اسم عربي يُسمِّي به بعضُ العربان النوع الأبيض الكبير من العوسج»([10]).
وعبارة (تَمْسُحُونَنِي عَلَيْكُمْ مَلِكاً) تشير إلى عادة اليهود في مسح من يتوجونه ملكا عليهم بما يسمونه "الزيت المقدس".
ثالثا: فقه الحديث
كان النبي e يحدث أمته ببعض الأخبار الآتية؛ استجابة لما ركز في الفطر من التطلع إلى المستقبل واستشراف أخباره، وتحذيرا للمؤمنين من قادم الفتن، وتبشيرا لهم بما يحيي جذوة الأمل، ويقطع بوادر اليأس والقنوط في نفوسهم؛ وهذ الحديث من البشارات التي بشر النبي e أمته بقدومها؛ وهو تبشير بنصر مكين للمسلمين على اليهود في معركة حاسمة تنشب بينهم في آخر الزمان؛ وفي الفقرات التالية محاولة لاستكناه معاني الحديث، ومدى تعلقه بالصراع القائم اليوم بيننا وبين الصهاينة في الأرض المقدسة:
1- ما دلالة تعريف طرفي المعركة في الحديث بالنسب الديني؟
عرف النبي e طرفي المعركة بنسبهما الديني في الحديث؛ فقال: (يقاتل المسلمون اليهود..)، وذكر أن ما يحتمي به اليهود من الجماد يقول: (يا عبد الله، يا مسلم، هذا يهودي.. )؛ وفي ذلك –بصرف النظر عن زمن تحقق النبوءة- دلالة واضحة على أن الصراع بين الحق والباطل في هذه المعركة -كما في غيرها- لا يكون إلا تحت راية العقيدة، وأن فريقي أهل الحق وأهل الباطل حين يحارب أحدهما الآخر إنما يحاربه باسم عقيدته الدينية ومن أجلها.
فالمعركة الحالية بيننا وبين اليهود ومن وراءهم، وكذا التي ينبئ بها الحديث ليست معركة وطنية ولا قومية...؛ إنها معركة دينية؛ إنها ليست معركة بين العرب والصهاينة كما يقال اليوم، إنها "بين المسلمين واليهود" هذا ما جاء في الحديث بصريح العبارة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «فالشجر والحجر يدل المسلمين على اليهود؛ يقول: "يا عبد الله"؛ باسم العبودية لله، ويقول: "يا مسلم"؛ باسم الإسلام، والرسول e يقول: "يقاتل المسلمون اليهود"، ولم يقل: "العرب"..؛ ولهذا أقول: إننا لن نقضي على اليهود باسم العروبة أبداً؛ لن نقضي عليهم إلا باسم الإسلام»([12]).
2. ما دلالة فرار اليهود في المعركة واختبائهم وراء الحجر والشجر؟
ذكر الحديث أن اليهود حين يهزمون في هذه المعركة ويفرون من وجه المسلمين يلجؤون إلى ما بين أيديهم من الأبنية والأشجار والأحجار، فيختبؤون وراءها تحصنا واحتماء بها من ضربات المسلمين؛ وفي ذلك برهان على أن صفات: الجبن، والرعب، وكراهية الموت، والحرص على الحياة... صفات ملازمة لليهود؛ لا تنفك عنهم، ولن تفارقهم إلى آخر الدهر، وصدق الله العظيم حين قال فيهم: ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾([13])؛ فمن أبرز نقط الضعف عند اليهود أنهم لا يملكون أي قدرة على المواجهة المباشرة في ساحة القتال إلا إذا كان الطرف الآخر أعزل خلو اليد من السلاح، أما إذا امتلك محاربوهم ما يكافئ أو يقارب ما عندهم من السلاح فلن يلبثوا أن يفروا مدحورين مرعوبين.
3. نطق الجمادات المذكورة في الحديث أحقيقي هو أم مجازي؟
تعرض بعض الشارحين لما جاء في الحديث من نطق الجمادات وإخبارها بمن يحتمي بها من اليهود؛ أهو على الحقيقة أم على المجاز؛ وقالوا: إن ذلك يحتمل الأمرين معا، وأنه يحتمل أن يكون المراد «أن ذلك ينطق حقيقة»([14])، وأن الحجر والشجر «يقول: ... يا عبد الله، بأن ينطقه الله بذلك وهو على كل شيء قدير الله»([15])؛ فـ «يكون ذلك كرامة للمؤمنين من باب خوارق العادات، وقد رأينا في عصرنا من العجائب المذهلات، ما قرب إلينا كل ما كان يستبعده الماديون الجاحدون»([16]).
ويحتمل «أن يكون نطق الشجر والحجر بلسان الحال، وقد قيل: لسان الحال أفصح من لسان المقام، والكلام لغة: كل ما يفيد معنى، وإن لم يكن بطريق النطق المعتاد»([17])؛ فيكون المعنى «المراد: أنهم لا يفيدهم الاختباء»([18]).
وقد رجح الأولَ كلٌّ من ابن حجر وبدر الدين العيني، وهو الصواب إن شاء الله؛ لأن ذلك سيقع قبيل القيامة -كما سيأتي-؛ وهو زمان تنخرق فيه العوائد كما هو معلوم من القرآن وثابت السنة.
والمهم أن من كان النصر حليفه كان كل شيء يعمل لحسابه، ويدل على عدوه، حتى النبات والجماد، ومن كتب عليه الخذلان، كان كل شيء ضده، حتى السلاح الذي في يديه.
4. هل الحديث تنبؤ بمعركة تحسم الصراع الحالي في أرض فلسطين؟
قدمنا أن بعض الكاتبين ذهب إلى أن اليهود المحتلين أرضَ فلسطين اليوم، هم من ستتحقق فيهم النبوءة النبوية الواردة في هذا الحديث، وأن الاحتلال الحالي سيحسم بالمعركة المذكورة فيه؛ فيكون تحرير القدس وفلسطين، وطرد الاحتلال الصهيوني حسب هذا الفهم مرتبطا بالموعد الذي ستتحقق فيه البشارة.
وهو موقف مبني كما قلت على توهم أن اليهود المتنبأ في الحديث بهزيمتهم أمام المسلمين، هم اليهود المغتصبون أرض فلسطين اليوم، وقد ساعد على هذا التأويل ما يتردد بكثرة من أن اليهود في فلسطين حاليا يقبلون على غرس شجر الغرقد الذي استثناه الحديث من الإخبار عنهم، وقد كثر الحديث عن غرس اليهود له، حتى إنه ما تكلم أحد ممن اطلعت على كلامهم عن هذه النبوءة إلا ذكر ذلك إلا القليل؛ وقد اعتبر الباحث (خالد بن صالح السيف) في مقال له إقبال اليهود على غرسه من إرهاصات قرب تحقق البشارة الواردة في الحديث المدروس؛ فقال في آخر مقالته: «بقي أن نقف على شيء من إرهاصات قرب ذلك التحقق، حيث تسخير الله سبحانه وتعالى لليهود بزراعة هذه الشجرة (الغرقد) حول المستوطنات التي أقاموها على أرض فلسطين على هيئة أسوار نباتية مانعة؛ لأن له أشواكاً قوية حادة»([19]).
ويحتمل أن يكون غرس اليهود للغرقد – إن صح - عائدا إلى علمهم بهذا الحديث، وأنهم يكثرون من غرسه تحسبا للمعركة المذكورة فيه، أخذا بما توهمه الكتاب المسلمون المذكورون، ويقوي هذا الاحتمال ما جاء في قول الدكتور صالح حسين سليمان الرقب، الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية بقطاع غزة، والعضو في رابطة علماء فلسطين، ضمن حوار له مع شبكة الألوكة الإلكترونية: «إن باحثَيْن أمريكيين زاراني في بيتي؛ طالبين فهم الحديث في ضوء الواقع المعاصِر، ولقد أخبراني بأنَّ اليهود يؤمنون بصحَّة مضْمون الحديث، وهم يَعْملون جادِّين على تأخير هذا اليوم، ويَزرعون شجر الغرقد استعدادًا لذلك»([20]).
وفضلا عن أن احتمال غرس اليهود له تحسبا لما جاء في الحديث مستبعد، فإن ربط الحديث بالصراع الجاري الآن في فلسطين، واستشراف مستقبل الصراع ونهايته بناء عليه لا يصح بحال، وقد أخطأ من أخطأ في ذلك بسبب الإخلال بالمنهج المرسوم للتعامل مع السنة على مستوى الفهم، ومن معالمه: «أن تجمع الأحاديث الصحيحة في الموضوع الواحد، بحيث يرد متشابهها إلى محكمها، ويحمل مطلقها على مقيدها، ويفسر عامها بخاصها، وبذلك يتضح المعنى المراد منها»([21])، ويتفرع عن ذلك جمع الروايات المختلفة للحديث الواحد، وفهم بعضها في ضوء بعض، وهو ما لم يفعله من تكلم في هذا الحديث؛ إذ تناولوه منفصلا عن سياقه، الذي يتضح بالوقوف على مختلف رواياته؛ فإن الحديث بمجموع رواياته يدل على أن ما تنبأ به النبي e من القتال بين المسلمين واليهود كما قرر بدر الدين العيني «إنما يكون إذا نزل عيسى بن مريم عليهما السلام، فإن المسلمين يكونون معه، واليهود مع الدجال»([22]).
فالحديث يخبر عن مقاتلة عيسى u ومن معه من المسلمين للمسيح الدجال وأتباعه من يهود أصبهان في آخر الزمان.
أخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أن رسول الله e قال: «يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ»([23])، وفي حديث أبي أمامة الطويل عند ابن ماجة كما تقدم أن عيسى u، إذا نزل وصلى الصبح خلف إمام المسلمين، قال: «افْتَحُوا الْبَابَ، فَيُفْتَحُ، وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ يَهُودِيٍّ...، فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ اللُّدِّ الشَّرْقِيِّ، فَيَقْتُلُهُ، فَيَهْزِمُ اللَّهُ الْيَهُودَ، فَلا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ يَتَوَارَى بِهِ يَهُودِيٌّ إِلا أَنْطَقَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ؛ لا حَجَرَ، وَلا شَجَرَ، وَلا حَائِطَ، وَلا دَابَّةَ - إِلا الْغَرْقَدَةَ؛ فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ لا تَنْطِقُ - إِلاَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ الْمُسْلِمَ، هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ اقْتُلْهُ»([24])، وفي رواية عند أحمد وغيره: «فَإِذَا صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ خَرَجُوا إِلَيْهِ، قَالَ: فَحِينَ يَرَاهُ الْكَذَّابُ يَنْمَاثُ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَيَمْشِي إِلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ، حَتَّى إِنَّ الشَّجَرَةَ وَالْحَجَرَ يُنَادِي: يَا رُوحَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ، فَلا يَتْرُكُ مِمَّنْ كَانَ يَتْبَعُهُ أَحَدًا إِلا قَتَلَهُ»([25]).
وفي مستدرك الحاكم من حديث حذيفة بن أسيد: أن الدجال إذا خرج يسير في الأرض «حَتَّى يَأْتيَ المْدينَةَ، فَيَغْلِبُ عَلَى خَارِجِها وَيُمْنَعُ دَاخِلَها، ثُمَّ جَبَلَ إِيلْياءَ، فَيُحاصِرُ عِصابَةً مِنَ المْسْلِمِينَ، فَيَقُولُ لَهُمْ الذِينَ عَلَيْهِمْ [أي أمراؤهم]: مَا تَنْتظِرونَ بِهَذَا الطَّاغِيَّة أَنْ تُقاتِلُوهُ، حَتَّى تَلْحَقُواْ بِاللهِ أَوْ يُفْتَحَ لَكُمْ؟ فَيَأْتَمِرُونَ أَنْ يُقَاتِلُوهُ إِذَا أَصْبَحُواْ، فَيُصْبِحُونَ وَمَعَهُمْ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، وَيُهْزَمُ أَصْحابُهُ، حَتَّى إِنَّ الشَّجَرَ والْحَجَرَ وَالْمَدَرَ يَقُولَ: يا مُؤْمِنٌ، هَذا يَهُودِيٌّ عِنْدِي، فَاقْتُلْهُ»([26]).
فمن مجموع هذه الروايات يتضح بما لا مجال معه للتأويل أن اليهود الذين تنبأ الحديث بمقاتلتهم للمسلمين، وانهزامهم في المعركة هم يهود أصبهان المقاتلين مع الدجال، فإن الدجال يخرج من أصبهان، ويتبعه -كما في حديث أنس عند مسلم- سبعون ألفا من يهودها، وهم من يقاتلهم المسلمون مع عيسى، ويلوذون منهزمين بالحجر والشجر، وهو ما تدل عليه رواية أبي أمامة عند ابن ماجه (فَيُفْتَحُ البابُ، وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ يَهُودِيٍّ، كُلُّهُمْ ذُو سَيْفٍ مُحَلًّى وَسَاجٍ..) فهؤلاء السبعون ألفا ليسوا سوى السبعين ألفا الذين ذكر حديث أنس أنهم يخرجون مع الدجال من أصبهان.
فهم قادمون من خارج فلسطين؛ يأتونها غزاة ويحاصرون أهلها المؤمنين، وليسوا مستوطنين لها، مستقرين بها كما هو حال من يحتلونه الآن من اليهود.
والذين يناديهم الحجر والشجر هم نبي الله عيسى ومن معه، كما هو واضح مما جاء في رواية أحمد: (حَتَّى إِنَّ الشَّجَرَةَ وَالْحَجَرَ يُنَادِي: يَا رُوحَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ..). و(روح الله) هو عيسى u.
وتدل أحاديث الدجال والمهدي ونزول عيسى على أن المسلمين يلوذون من الدجال ببيت المقدس، وأن المهدي يكون هو أميرهم، فينزل عيسى ويصلي خلفه، والدجال يحاصرهم، وقد جزم بذلك جمع من العلماء؛ قال الحافظ أبو الحسن الأبري السجستاني: «قد تواترت الأخبار واستفاضت.. في المهدي..، وأنه يخرج مع عيسى بن مريم، ويساعده في قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة، وعيسى e يصلي خلفه»([27]).
وقال المناوي: «لأن نزوله [أي عيسى] (عليه السلام) لقتل الدجال يكون في زمن المهدي ،..كما جاءت به الأخبار، وجزم به جمع من الأخيار»([28]).
وقد ثبت أن المهدي هو أمير المسلمين حين ينزل عيسى في أحاديث؛ منها: حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله e: «مِنَّا الذِي يُصَلِّي عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ خَلْفَهُ»([29])، وقوله : "منا"؛ أي من آل البيت، والمهدي من آل البيت.
وعن جابر؛ عن النبي e قال: «يَنْزِلُ عِيسَى بنُ مَرْيم، فَيقُولُ أَميرُهُم المْهْدِيُّ: تَعالَ صَلِّ بِنا، فَيَقولُ: لا؛ إِنَّ بَعْضَكُم أَميرُ بَعْضٍ تَكْرٍمَةَ اللهِ لهَذِه الأُمَّةِ»([30]).
واعتصام المسلمين ببيت المقدس هو ما يشير إليه ما جاء في رواية الحاكم السالفة أن الدجال إذا انصرف عن المدينة يأتي (جَبَلَ إِيلْياءَ، فَيُحاصِرُ عِصابَةً مِنَ المْسْلِمِينَ).
وما كان المسلمون ليجتمعوا في بيت المقدس، ويعتصموا به آنذاك والاحتلال "الإسرائيلي" قائم، بل ستكون الأرض حينها محررة من اليهود، وإذا ثبت أن فلسطين ستكون محررة وتحت حكم المسلمين عند ظهور المهدي ونزول عيسى، وأن «المراد بقتال اليهود [في الحديث] وقوع ذلك إذا خرج الدجال ونزل عيسى»([31]) كما يقرر ابن حجر العسقلاني وكذا بدر الدين العيني، انتفى أن يكون لهذا الحديث أي صلة بالصراع الدائر الآن في فلسطين؛ وبطل التأويل الجانح إلى أن الصراع سيستمر حتى ينحسم في المعركة التي يتنبأ بها هذا الحديث.
وهو تأويل له خطره، وأقل ما فيه: أن الأوضاع قد تتغير قريبا لصالح المسلمين فيدحرون اليهود، ويطردونهم من أرضهم، دون أن ينطق الحجر والشجر؛ فيكون في ذلك فتنة وأي فتنة للمؤمنين الذين يعرفون هذا الحديث، ويترقبون حدوث ما تنبأ به؛ فيظنون أن خبر النبي e قد تخلف؛ وفي ذلك مفاسد؛ أدناها: الحكم بكذب هذا الحديث، وهو كما رأينا صحيح النسبة إلى رسول الله e على جهة القطع، وأشدها، تكذيب النبي e نفسه والشك في أخباره وسننه.
ولسوف يجدها المنافقون فرصة للنيل من السنة؛ وليقولن في فرح: ها هي ذي روايات السنة يكذبها الواقع بما فيها أخبار الصحيحين، وأنها تخبر أن هزيمة اليهود ستكون على صورة معينة؛ من فرارهم من وجه المسلمين، واختباؤهم وراء الجمادات، وأن الحجر والشجر سينطق بالدلالة عليهم، ولم يحدث من ذلك شيء.
آخر المقال
[1] أبو إسحاق الشيرازي، "اللمع في أصول الفقه"، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة.2، (1424هـ/2003م): 1/72.
[2] أبو عمرو ابن الصلاح، "علوم الحديث"، تحقيق نور الدين عتر، ط. دار الفكر، دمشق، الطبعة. 3، (1404هـ)، ص: 28.
[3] نفسه.
[4] العضاه: كل شجر ذي شوك.
[5] ابن الأثير، "النهاية في غريب الحديث والأثر"، مادة (غرقد).
[6] النووي، "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج"، تحقيق مامون شيحا، ط. دار المعرفة، بيروت، ط.10، (1425هـ/2004م)؛ المجلد: 9، ج: 18، ص: 252.
[7] الزمخشري، "الفائق في غريب الحديث"، مادة (غرقد).
[8] سفر القضاة: 9/14-15.
[9] النووي، المرجع السابق.
[10] الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، (1422هـ/2001م): 3/205.
[11] مصدر الصورتين: موقع شبكة معلومة أون لاين: http://www.shabakaonline.com.
[12] تفسير القرآن الكريم، ط. دار ابن الجوزي، السعودية، الطبعة.1، صفر، (1423هـ): 1/169.
[13] سورة الحشر: 14.
[14] ابن حجر، "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، ط. دار السلام بالرياض، ودار الفيحاء بدمشق، الطبعة.3، (2421هـ/2000م): 6/745.
[15] بدر الدين العيني، "عمدة القاري شرح صحيح البخاري"، ط. إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، (بلا تاريخ): 21/426.
[16] القرضاوي، "فتاوى معاصرة": 2/60
[17] نفسه.
[18] ابن حجر، "فتح الباري": 6/745-746.
[19] في موسم الجفاف: يُجتث نخلنا، وينمو غَرْقَدُهُم!!، مقال منشور بمجلة البيان، عدد 49، رمضان، 1412هـ، مارس 1992م، ص: 57.
[20] نشر الحوار بتاريخ: 30/6/2010، في موقع شبكة الألوكة: http://www.alukah.net، تحت عنوان: "حوار شبكة الألوكة مع الدكتور صالح الرقب حول الوضع الديني في قطاع غزة بين الواقع والطموح".
[21] يوسف القرضاوي، "كيف نتعامل مع السنة النبوية"، ط. دار الشروق، القاهرة، الطبعة.5، (2008)، ص: 123.
[22] بدر الدين العيني، "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": 14/199.
[23] أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: في بقية من أحاديث الدجال، رقم (7318)
[24] أخرجه ابن ماجة كما تقدم في كتاب الفتن، بَاب فِتْنَةِ الدَّجَالِ..، رقم (4077)، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: 6/745: «أخرجه ابن ماجه مطولا، وأصله عند أبي داود، ونحوه في حديث سمرة عند أحمد بإسناد حسن، وأخرجه ابن منده في كتاب الإيمان من حديث حذيفة بإسناد صحيح»، وهو في صحيح الجامع الصغير، رقم (7875).
[25] جزء من حديث طويل أخرجه أحمد في مسنده، رقم (14997)، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند: "إسناده على شرط مسلم"، وأخرجه الحاكم في المستدرك، رقم (8613)، وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي في التلخيص.
[26] رواه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين"، رقم (8612)، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، وقال الذهبي في التلخيص: «على شرط البخاري ومسلم»، وقال الألباني في "قصة المسيح الدجال"، ط. المكتبة الإسلامية، عمان، الأردن، (دون تاريخ)، ص: 106 : «قال الحاكم: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي وهو كما قالا».
[27] كتاب "مناقب الشافعي"، تحقيق جمال عزون، ط. الدار الأثرية، الطبعة.1، (1430هـ /200م)، ص: 95.
[28] محمد عبد الرؤوف المناوي، "فيض القدير شرح الجامع الصغير"، ضبطه وصححه أحمد عبد السلام، ط. دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة.1 (1415 هـ / 1994 م): 5/383.
[29] أخرجه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب "الأربعون حديثا في المهدي"، الحديث (38)، وأورده الألباني في "السلسلة الصحيحة"، رقم (2293).
[30] عزاه ابن القيم في "المنار المنيف في الصحيح والضعيف"، تحقيق يحيى بن عبد الله الثمالي، ط. دار عالم الفوائد، الطبعة.1، مكة المكرمة (1428هـ)، ص: 147، إلى الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"، ثم قال: «وهذا إسناد جيد»، وأورده الألباني في "السلسلة الصحيحة"، رقم (2236).
[31] ابن حجر، "فتح الباري": 6/745.
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا تراه مشجعا أو مفيدا