القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المنشورات

أسباب وجذور الانحياز الغربي لـ "إسرائيل"؟ الحلقة 5 عبد الوهاب المسيري وفرضية الجذور الدينية للانحياز الغربي لـ"إسرائيل" (Dr. Abdel-Wahab El-Mesiri and the hypothesis of the religious roots of the Western bias towards "Israel")

 


 

أسباب وجذور الانحياز الغربي لـ "إسرائيل"؟

الحلقة 5

عبد الوهاب المسيري وفرضية الجذور الدينية للانحياز الغربي لـ"إسرائيل"

(Dr. Abdel-Wahab El-Mesiri and the hypothesis of the religious roots of the Western bias towards "Israel")

                                                                        

بقلم د. الحسين بودميع

 

يرفض الدكتور المسيري أن يكون الانحياز الغربي للكيان الصهيوني ذا أساس ديني؛ تأسيسا على المنطلقات التالية:

أ- رؤيته للحضارة الغربية، وكونها حضارة مادية، استحكمت وسادت فيها الفلسفة النفعية والعلمانية الشاملة التي تفصل «كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن العالم، أي عن كلٍّ من الإنسان والطبيعة بحيث يصبح العالم مادة نسبية لا قداسة لها»([1]).

ب- واقع حياة الناس في الغرب بعد أن خرجوا من عباءة الدين يوم أن قرروا الثورة على الكنيسة، فهم الآن يعيشون عصر ما بعد الكنيسة، الذي لا أثر فيه للدين على الحياة، ولا سلطان له على النفوس، خاصة وأن صناع القرار من القادة السياسيين والعسكريين عادة ما يكونون علمانيين غير متدينين، ومن ثم لا نتصور أن تكون للاعتبارات الدينية أثر في قراراتهم.

ج- نظرته إلى المجتمع الغربي الحديث على أنه مجتمع تعاقدي؛ لا يتصرف فيه الناس –خاصة فيما يتصل بالحياة العامة- إلا بمقتضى المنفعة، ويبعد أن يتخذ فيه أحد موقفا على أساس أخلاقي أو اقتناع ديني؛ ومن ثم فلا يمكن أن تكون الاعتبارات الدينية حسب هذا التحليل هي التي تدفع الغرب إلى هذا الانحياز.

أما ما يسمى (الصهيونية المسيحية) فهي عنده –علاوة على هامشية تأثيرها- «صهيونية غير مسيحية بأية حال»([2])، وإنما هي «صهيونية تدَّعي أن لها أسساً مسيحية، وهي في واقع الأمر ليست كذلك»([3])، ولهذا يُفَضّل تسميتها صهيونية ذات ديباجة مسيحية؛ أي أنها هي نفس «الصيغة الصهيونية الأساسية متدثرة بديباجات مسيحية بروتستانتية»([4]).

فالصهيونية وإن ظهرت في أواخر القرن السادس عشر على شكل الأحلام الاسترجاعية في الأوساط البروتستانتية؛ إلا أنه «مع تصاعُد المشروع الاستعماري انزوى دعاة الديباجات الدينية، وتدثرت الصياغة الصهيونية الأساسية بالديباجات العلمانية الرومانسية والعضوية والنفعية والعقلانية»([5]).

واستدعاء بعض الزعماء الغربيين للخطاب الديني بشأن توطين اليهود بفلسطين لا يخرج عن خطة الغرب في تسويغ مشروعه الاستيطاني بشكل عام (في فلسطين وغيرها) بـ «استخدم ديباجات صهيونية مسيحية توراتية لتبرير عملية غزو العالم...؛ وقد استُخدمت هذه الديباجات في استعمار الأمريكتين وجنوب أفريقيا»([6]).

والخلاصة أن الدكتور المسيري يستبعد العوامل الدينية من أنموذجه التفسيري عند تحليل الفكر الصهيوني وتأييد الغرب له.

بيد أن غير واحد من الدارسين الذين أجروا أبحاثا في هذا الموضوع توصلوا إلى أن ما ترسخ في ثقافة مسيحيي الغرب شعوبا وقادة (ولدى الأمريكيين خاصة) من دور محوري لليهود وفلسطين فيما يعتبرونه "الخطة الإلهية للخلاص المسيحي"، وما استتبعه ذلك من التزام اعتقادي تجاه "إسرائيل" إنشاء ومسارا، هي الأسباب الحقيقية لتبني الغرب للمشروع الصهيوني وانحيازه اللامشروط للدولة العبرية.

وينبني هذا الطرح على مبدأ أن الدين هو الموجه الأساسي لمواقف وسلوكات الناس، وهو من ثم العامل الرئيسي المتحكم في العلاقات والسياسات الدولية، وهذا المبدأ ينطبق أصدق ما يكون الانطباق على مواقف الدول الغربية، وإن بدا الأمر بخلاف ذلك؛ جاء في خطاب للرئيس الأمريكي رونالد ريجان في غشت سنة 1984 قوله: «يلعب الدين دورا حاسما في الحياة السياسية لأمتنا»([7]).

ويرى الكاتب الأمريكي (جيمس فن  James Van) أن «لا أحد يستطيع أن يفهم أمريكا.. إلا إذا وعى وتفهم التأثير الذي باشره وما زال يباشره الدين في صنع هذا البلد»([8]).

ويؤكد نفسَ المعنى قولُ الصحفيين الألمانيين (هانز هوينج) و(جيرهارد شبورل): إن «من يفشل في أن يأخذ جديا دور الدين في.. البلد الذي تحمل عملته شعار: (في الله نضع ثقتنا) فإنه يفشل في فهم أمريكا»([9]).

وإذا أخذنا بقاعدة برنارد شو: «إن الحضارات تسقط في اللحظة التي تكون فيها قوة الإنسان أشد من قوة الدين»([10])، فإن عدم سقوط الحضارة الغربية إلى الآن يدل على أن قوة الدين في الغرب لا زالت أشد من قوة الإنسان.

ثم إن من يتابع المواقف السياسية للدول، مما يجري في العالم من أحداث التنافس والنزاع السلمي وغير السلمي على الأرض والثروة والسلطة، ويرصد علاقات التآلف والتنافر، والتقارب والتباعد بين الدول؛ يستخلص بداهة جملة من النتائج تعزز لديه الاعتقاد بالتأثير المحوري للانتماءات العقدية في العلاقات والسياسات الدولية، وتقوي عنده الشك فيما إذا كانت المصالح الإستراتيجية والاعتبارات الاقتصادية -التي شاع في الدراسات الإستراتيجية أنها الموجه الأقوى أو الأوحد للسياسات والعلاقات الدولية- تصمد أمام الاعتبارات الدينية، ومن هذه النتائج على وجه التمثيل لا على سبيل الحصر:

أولا: دور الانتماء العقدي للأقليات الساعية إلى الانفصال عن أطرها الإقليمية، في مواقف الدول الغربية من مشاريعها؛ وهذه الأقليات نوعان:

1- نوع يختلف ديانة مع الدولة الأم؛ مثل أقلية مسيحية تسعى إلى الانفصال عن دولة مسلمة؛ كتيمور الشرقية وجنوب السودان، أو أقلية مسلمة تطالب بالانفصال عن دولة غير مسلمة؛ مثل كشمير والشيشان. ومع هذا النوع يبرز دور العقائد الدينية في مواقف الدول من النزاع؛ فقد رأينا مواقف الدول الغربية مختلفة في الحالة الأولى عنها في الثانية؛ حيث لقي منها "نضال" الأقليتين المسيحيتين في سبيل الاستقلال دعما غير مشروط باسم حق الشعوب في تقرير مصيرها، وانتهى أمرهما إلى الانفصال عن أندونسيا والسودان، بينما قوبل "نضال"  الأقليتين المسلمتين في سبيل الهدف نفسه بالاستنكار، واعتبر إرهابا يستوجب دعم كل من الهند وروسيا في محاربته.

2- نوع يتحد ديانة مع الدولة الأم؛ كإيتا الباسكية الساعية للانفصال عن إسبانيا، والبوليساريو في سعيهم لفصل الصحراء عن المغرب؛ وهنا يختفي تأثير الدين لتحل محله المصالح الإستراتيجية محركا لمواقف القوى الدولية من النزاع.

ثانيا: علاقة الانتماء الديني للدول بقبول أو رفض انضمامها إلى المنظمات والاتحادات الاقتصادية الإقليمية؛ وأبرز مثال على هذا: فشل دولة تركيا المسلمة رغم مؤهلاتها الاقتصادية وأهميتها الاستراتيجية، في انتزاع قبول الانضمام للاتحاد الأوربي، في الوقت الذي رحب فيه الاتحاد بانضمام دول مسيحية من شرق أوربا مؤهلاتها أضعف بكثير من مؤهلات تركيا؛ كرومانيا وبلغاريا، وقد صرح بعض قادة الغرب مثل الرئيس الفرنسي السابق (نيكولا سركوزي) بأن هوية تركيا الإسلامية هي ما يمنعنا من قبول انضمام تركيا إلى الاتحاد.

ثالثا:أثر الموقف من الحضارة والهوية الإسلامية لدى الأحزاب والهيئات المنخرطة في المنافسة الانتخابية بالعالمين العربي والإسلامي في مواقف القوى الدولية من مخرجات صناديق الاقتراع في هذه البلدان؛ فترى الدول الغربية - التي طالما صدعت رؤوس الناس بدعوى الحرص على نشر القيم الديمقراطية في العالم – تتنكر لهذه القيم، وتبذل جهدها في إفشال العملية الديموقراطية حينما تسفر نتائجها عن صعود الإسلاميين –العدو الإستراتيجي والمنافس الحضاري الحقيقي للغرب-؛ فتوعز لحلفائها النافذين في هذه البلدان بالانقضاض على السلطة، وإبعاد "خطر" الإسلاميين عنها؛ إما بإلغاء الانتخابات وإجهاض العملية الديموقراطية في مهدها، أو بالانقلاب العسكري على السلطة المنتخبة قبل أن تتمكن من إنجاح مشروعها.

رابعا:أثر الهوية الدينية والمذهبية للجماعات المسلحة في وسمها بالإرهاب وعدمه؛ حيث نلحظ حصر كثير من الدوائر السياسية والإعلامية هذا الوصف في الجماعات المحسوبة على المسلمين السنة، دون غيرها من الجماعات الدينية؛ الشيعية، والمسيحية، واليهودية، والهندوسية؛ التي تكون أحيانا أكثر دموية وتشددا من أشد الجماعات السنية راديكالية.

خامسا: علاقة الهوية الدينية لضحايا الحروب والعنف المسلح بحجم التعاطف الدولي معهم، والتعامل مع اللاجئين منهم؛ حيث نرى التعاطف قويا وصوت الاستنكار صاخبا ومدويا حينما يكون الضحايا من غير المسلمين؛ كالحال مع ضحايا تنظيم "داعش" من اليزيديين بالعراق، ونراه خافتا خجولا أو منعدما حينما يكون الضحايا من المسلمين؛ كالحال مع ضحايا التطهير الديني الذي يمارسه الإرهابيون البوذيون في ميانمار ضد مسلمي الروهينكا، وضحايا الملشيات الشيعية من المسلمين السنة بسوريا والعراق، وضحايا الحروب الصهيونية من المسلمين في غزة، وقبل ذلك مأساة شعب البوسنة والهرسك في مواجهة الفاشية الصربية أواخر القرن الماضي، التي لم تستدع من الدول الأروبية والغربية عموما أي تدخل لوقف الإبادة ضد الشعب البوسني، فقط لسبب واحد؛ هو كونه شعبا مسلما، وقد نقل عن الرئيس الأمريكي الأسبق (بيل كلنتون) قوله في تلك الآونة: إن القادة الأوربيين كانوا يقولون له: «إن ما يجري في البوسنة مؤلم، ولكنا نريد بناء أروبا مسيحية»([11]). يقصد أن الغرب المسيحي يرغب في تصفية الشعب المسلم في البوسنة لتبقى أروبا مسيحية خالصة، ما يجعل العدوان الصربي –وإن كان مؤلما- موافقا لهوى الغرب المعادي حضاريا للمسلمين.

سادسا:دور الانتماء الديني في اختيار المسؤولين من المترشحين للمناصب الأممية في مجالات السياسة والرياضة وحقوق الإنسان..؛ كالأمانة العامة للأمم المتحدة، ورئاسة الفيفا، وقيادة المنظمات الحقوقية والثقافية والهيئات الإنسانية الأممية؛ حيث لم يسبق لمسلم أن اختير لتولي منصب منها لحد الآن، ويري كثيرون أن اختيار الوزير العربي المصري (بطرس بطرس غالي) لتولي منصب الأمانة العامة للأمم المتحدة ما كان ليحدث لولا ديانته المسيحية.

ثامنا: أثر الهوية الدينية للدول في دعم أو إفشال مساعيها في امتلاك التقنية والصناعة الحربية والنووية.

وغيرها من النتائج التي يصل إليها كل مهتم مراقب للأحداث، والتي توصل ملاحظها إلى قناعة كاملة  بمحورية أثر العقائد الدينية والتوجهات الفكرية في توجيه مواقف الدول مما يجري في العالم من النزاعات والأحداث، وإذا كانت هذه هي الحال مع النزاعات العادية؛ فإن العوامل العقدية أشد تأثيرا وتوجيها للمواقف من الصراع القائم في فلسطين.

ومن أوائل من طرق البحث في الجذور اللاهوتية للإنحياز الغربي لـ"إسرائيل" : الدبلوماسي الإماراتي الدكتور يوسف الحسن، الذي تمكن أثناء قيامه بعمله الدبلوماسي في الولايات المتحدة ما بين عامي 1978 و1986 من تتبع ورصد «نشاط الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية.. و.. حركتها ومؤتمراتها، ونشاط إعلامها»([12])، التي تصب كلها في دعم إسرائيل؛ مما حفزه على خوض غمار البحث في عقائد ومواقف ونشاطات هذه الحركات، قصد إبراز (البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي-الصهيوني)، وجعل ذلك موضوعا لأطروحته لنيل الدكتوراه، وقد توصل فيه إلى «أن الحركة المسيحية الأصولية المعاصرة في الولايات المتحدة الأمريكية هي أحد الأعمدة الأساسية المتبنية للمشروع الصهيوني والداعمة له، وأنها من أهم مصادر التأييد الدائم والدعم السياسي والمعنوي والإعلامي والمادي الموصول لإسرائيل وسياساتها»([13])، وعزز نتيجة هذا البحث بمؤلفه (جذور الانحياز: دراسة في تأثير الأصولية المسيحية في السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية)، وأكد فيه «أن المشهد الديني في الصراع العربي الصهيوني، هو عامل حاسم في هذا الصراع تكوينا ومسارا»([14]).

وكرس الباحث إسماعيل الكيلاني بحثه الموسوم بعنوان: (الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي) للبرهنة على «أن الخلفية التوراتية التي يؤمن بها النصارى على اختلاف مذاهبهم، هي التي تجعلهم يتعاطفون مع اليهودية العالمية في غزوها لبلادنا»([15]).

وكتب الدكتور فؤاد شعبان في الموضوع كتاب: (من أجل صهيون: التراث اليهودي-المسيحي في الثقافة الأمريكية)، وانتهى فيه إلى أن «المسيحية الغربية.. كانت وما زالت عاملا له تأثير وأهمية كبيران في تشكيل موقف الغرب، وبخاصة أمريكا من القدس والأراضي المقدسة، ومن ثم النزاع العربي الإسرائيلي»([16]).

وعلى هذا الرأى الباحث المتخصص في موضوع أثر الدين في السياسات الدولية؛ محمد السماك؛ إذ يرى «أن الإيمان بعودة السيد المسيح، وبأن هذه العودة "مشروطة" بقيام دولة صهيون، وبالتالي بتجميع اليهود في أرض فلسطين، لعب في الماضي، ويلعب اليوم دورا أساسيا في صناعة قرار قيام إسرائيل وتهجير اليهود إليها، ومن ثم دعمها ومساعدتها»([17]).

وأكد الكاتب الصحفي المتخصص في السياسة الأمريكية؛ رضا هلال أن «الانحياز الأمريكي لإسرائيل هو انحياز أساسه لاهوتي وثقافي، وليس مجرد انحياز استراتيجي، أو انحياز بتأثير اللوبي اليهودي»([18]).

وكشفت الكاتبة الأمريكية (جريس هالسل) في كتابيها (النبوءة والسياسة) و (إجبار يد الله) عن مدى الثأثير الذي تلعبه العقائد الدينية على مواقف وقرارات الساسة الغربيين تجاه "إسرائيل"؛  حيث أكدت «أن تأثير المسيحيين الصهاينة على الساسة الغربيين هو الذي ساعد اليهودية الصهيونية الحديثة على تحقيق هدفها في إعادة ولادة إسرائيل»([19]).

 وتوصل الباحث يوسف الطويل في كتابه (الصليبيون الجدد) الذي بحث فيه جذور الانحياز الأمريكي والبريطاني للكيان الصهيوني، إلى «أن الإدارة الأمريكية بكامل هيئاتها، والشعب الأمريكي بوجه عام ينظرون إلى علاقتهم بإسرائيل من منظار ديني بحت»([20])، وإن كان «معظم صانعي القرار في أمريكا يحرصون على عدم إظهار خلفياتهم الدينية التي تدفعهم لدعم إسرائيل»([21]).

وانتهى الباحث المصري شفيق مقار في كتابه (المسيحية والتوراة) الذي تتبع فيه الجذور الدينية لصراع الشرق الأوسط، إلى أن المعطيات المتوافرة تشير «إلى وجود دور قوي بالغ الفعالية للدين في صنع وتكييف الدور الغربي بالغ الوضوح في بدء وتسيير ودفع ودعم المشروع الصهيوني»([22]).

وفي كتابها (الصهيونية غير اليهودية) الذي تناولت فيه جذور الصهيونية في المجتمع الغربي توصلت الدكتورة ريجينا شريف إلى أن «الصورة الصهيونية التي تطورت في الغرب على مدى أربعة قرون، والتي تعزى إليها الآن المواقف والسياسات الغربية المؤيدة لإسرائيل... من الممكن اعتبارها حصيلة المفاهيم التالية: المفهوم التوراتي، ومفهوم التماثل الذاتي، والمفهوم الأخلاقي»([23]).

وتريد بـ (المفهوم التوراتي) ما ترسخ في الثقافة الغربية من تقديس لليهود باعتبارهم امتدادا لشعب التوراة، وتمجيدا لـ "إسرائيل" الحديثة بوصفها امتدادا لإسرائيل القديمة، نتيجة التحول العميق الذي أحدثته حركة "الإصلاح الديني"، التي أعادت الاعتبار للتوراة (العهد القديم) في حياة المسيحيين، وقد مثلت الباحثة لتأثير الخلفية التوراتية في اللغة والثقافة الغربية بما يتوارد على ألسنة سياسييهم من تشبيه صراع اليهود مع العرب بقصة صراع داود (الإسرائيلي) مع جالوت (الفلسطيني) في التوراة، فقد جرى على قلم محرر صحيفة لويس أنجلوس: «أن إسرائيل الصغيرة التي تظهر على المسرح في دور داود الضعيف في العهد القديم، عاقبت جالوت العربي.. عام 1967»([24])، وقال السيناتور (جوزيف مونتويا) مرة وهو في قاعة البرلمان: «من الصعب التصديق بأن داود (إسرائيل)       هو المعتدي الحقيقي على جالوت»([25]). يريد أن "إسرائيل" المرموز لها بـ (داود) وإن قتلت الفلسطينيين المرموز لهم بـ (جالوت) في حرب 1967، فإن المعتدي الحقيقي ليس هو القاتل، بل المقتول، كما أن داود وإن قتل جالوت، فإن المعتدي هو جالوت.

أما مفهوم (التماثل الذاتي) فلعله خاص بالحالة الأمريكية، وتريد به الكاتبة ما تشبعت به الذهنية الأمريكية من «أن الاستيطان اليهودي في فلسطين مشابه للمستوطنات المسيحية الأولى التي أصبحت تشكل الولايات المتحدة..، وقد عبر القس البروتستانتي جون هاينز عن هذه الصورة خلال زيارة قام بها إلى فلسطين عام 1929، [قائلا]: (عندما قابلت وتحدثت مع فالحي الأرض هؤلاء [أي المستوطنين اليهود]، لم أكن أفكر إلا في المستوطنين الإنجليز الأوائل الذين قدموا إلى شواطئ ماساشوسيتس القاحلة، واستطاعوا أن يرسوا قواعد جمهوريتنا الثابتة (أمريكا) وسط برد الشتاء في أرض لم تفلح، وبين السكان المواطنين المناوئين لهم)»([26]).

وأما المفهوم الأخلاقي، فيراد به عادة: أن الغرب يرون أنفسهم ملزمين أخلاقيا بدعم ومساندة "إسرائيل"، بسبب ما لقيه اليهود طوال تاريخهم في الغرب من اضطهاد، آخِرُ فصوله "المحرقة النازية" المزعومة، إضافة إلى أنهم يرون "إسرائيل" واحة للديمقراطية في وسط ديكتاتوري؛ فوجب أخلاقيا على الغرب الملتزم بنشر قيم الديمقراطية دعمها.

ويعود الأساس الديني الذي يرجع إليه التبني الغربي للمشروع الصهيوني إلى أمرين:

الأمر الأول: الاعتقاد بحق اليهود تاريخيا ودينيا في أرض فلسطين، استنادا إلى وعود توراتية لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وذرياتهم بتملك تلك الأرض، والإيمان بحتمية بناء "إسرائيل"، اعتمادا على نبوءات توراتية بشأن عودة بني إسرائيل إلى فلسطين بعد الشتات، فقد «ظل اليهود وتجمعهم في فلسطين كأمة، عصب الإيمان المسيحي المنبني على العهد القديم»([27]).

-      ويؤسس من يتبنى هذا المعتقد تصوره على أن نصوص الوعد بالأرض، ونبوءات العودة الإسرائيلية إليها -ككل نص في الكتاب "المقدس"- وحي من الله، وأن اليهود يتميزون بالوحدة الجنسية، وأن جميع يهود العالم اليوم ينحدرون من سلالة عرقية واحدة هي سلالة بني إسراءيل([28]).   

الأمر الثاني: جملة من التصورات الدينية المستمدة من النبوءات التوراتية والإنجيلية المتعلقة بمجيء المسيح ونهاية العالم، وأخطر هذه التصورات، وأعمقها أثرا على الموقف المسيحي، تلك التي تعتبر التجمع اليهودي في فلسطين شرطا ضروريا لعودة المسيح، وتحقق الخلاص المسيحي، استنادا إلى تفسيرات لما جاء في سفر الرؤيا([29]) من الربط بين التواجد اليهودي في فلسطين ونزول المسيح، وقول إنجيل يوحنا: «لِأَنَّ الْخَلَاصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ»([30]).

 



[1]  الموسوعة: 1/98.

[2]  نفسه: 6/137.

[3]  نفسه: 1/46.

[4]  نفسه: 6/92.

[5]  نفسه.

[6]  نفسه: 6/138.

[7]  يوسف الحسن، "جذور الانحياز"، ص: 64.                     

[8] رضا هلال، "المسيح اليهودي ونهاية العالم: المسيحية السياسية والأصولية في أمريكا"، ط. مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة.3، (1425هـ/2004م)، ص: 41.

[9] هانز هوينج وجيرهارد شبورل، "حروب الرحمة"، مقال منشور بمجلة ديرشبيجل الألمانية، في: 17/02/2003، ترجمة: رانيا خلاف، مطبوع ضمن كتاب عادل المعلم،"مقدمة في الأصولية المسيحية الأمريكية والرئيس الذي استدعاه الله"، ط. دار الشروق الدولية، القاهرة، (بلا تاريخ)، ص: 12.

[10] كولن ويلسون، "سقوط الحضارة"، نقله إلى العربية أنيس زكي حسن، ط. دار الآداب، بيروت، الطبعة.3، (1982م)، ص: 342.

[11] انظر الكتاب الصادر حديثا للصحفي الأمريكي (Taylor Branch)، الصديق الشخصي لكلنتون، بعنوان: (أشرطة كلنتون: مصارعة التاريخ مع الرئيس)، (Clinton Tapes: Conversations with a president)، منشور بصيغة (pdf) في عدة مواقع على الإنترنت.

[12] البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني: دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية، ط. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة.4، (2005)، ص: 10.

[13] نفسه، ص: 9-10.

[14] جذور الانحياز، ص: 90.

[15] إسماعيل الكيلاني، "الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي"، ط. مكتبة الأقصى، الدوحة، الطبعة.1، (1407هـ/1987م)، ص: 19.

[16] فؤاد شعبان، "من أجل صهيون: التراث اليهودي-المسيحي في الثقافة الأمريكية"، ط. دار الفكر، دمشق، (1424هـ/2003م)، ص: 47.

[17] جريس هالسل، "النبوءة والسياسة"، مقدمة المترجم؛ محمد السماك، ص: 11.

[18] رضا هلال، "المسيح اليهودي"، ص: 13.

[19] جريس هالسل، المرجع السابق، ص: 108.

[20] يوسف العاصي الطويل، "الصليبيون الجدد، الحملة الثامنة: دراسة في أسباب التحيز الأمريكي والبريطاني لإسرائيل"، ط. مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة.1، (1997)، "، ص: 108.

[21] نفسه، ص: 99.

[22] شفيق مقار، "المسيحية والتوراة: بحث في الجذور الدينية لصراع الشرق الأوسط"، ط. رياض الريس، لندن، ط.1، (1992م)، ص: 442.

[23] ريجينا الشريف، "الصهيونية غير اليهودية"،  ص: 270-271.

[24] نفسه، ص: 271.

[25] نفسه، ص: 271-272.

[26] نفسه، ص: 272-273.

[27] بربارا توخمان، "الكتاب المقدس والسيف: انجلترا وفلسطين من العصر البرونزي إلى بلفور"، تعريب منى عثمان ومحمد طه، ط. مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة.1، (1424هـ/2004): 1/128.

[28] ناقش الباحث دعوى الوحدة العرقية لليهود ببعديها الديني والأنثروبولوجي؛ بما جلى زيفها في مقال خاص، بعنوان: (اليهودية: ديانة قومية أو تبشيرية؟)، منشور بمجلة البيان، الصادرة عن المنتدى الإسلامي، بلندن، العدد 344، يناير 2016م.

[29] للمؤلف دراسة نقدية حول سفر الرؤيا، تثبت بالأدلة أنه سفر منحول على يوحنا اللاهوتي، ألفه يهودي تنصر، وأُقحم –لأسباب معينة- في العهد الجديد، فصار النصارى يعتقدون أنه وحي منزل، والدراسة المنوه بها نشرت في مجلة البيان، عدد (333).

[30] إنجيل يوحنا: 4/22.

تعليقات

التنقل السريع